منذ الأيام الأولى لسقوط نظام البعث، شرع المتطرفون الإسلاميون بشن حملات اضطهاد المسيحيين والصابئة المندائيين. بدأت الحملات من عصابات الصدر، سواء في بغداد أو البصرة أو مدن جنوبية أحرى، وهي حملات شنت في الوقت ذاته ضد النساء السافرات، والجامعات، والسينمات، ناهيكم عن محلات بيع الخمور. تطورت الهجمة لتشمل الموصل تمارسها قوى المتشددين السنة، وعناصر إرهاب متسللة من الخارج، وكانت رسائل تهديد العائلات المسيحية في الموصل قد أرسلت لها عشية سقوط صدام، مرة بتهمة موالاته وأخرى فيما بعد بتهمة موالاة أمريكا!
لقد راح ضحية لحرب التطرف الديني ضد المسيحيين عشرات الآلاف من المسيحيين الذي اضطروا للهجرة لبلدان مجاورة، حتى أنه، وحسب المعلومات، قد ملئوا عمان ودمشق وكنائسهما، هاربين من كابوس حرق الكنائس في بغداد والموصل وخطف وقتل القسس وغيرهم. إن هذه الهجرة تداخلت تدريجيا مع هجرة مئات الآلاف من العراقيين الذين هربوا خوفا من القتل والتفجير اليوميين، والتهديدات المستمرة، وخصوصا للأطباء والأساتذة. ونعرف كم شهيد من الأساتذة والأطباء والمثقفين سقطوا في بغداد ومدن أخرى، وإن دوامة العنف الدموي مستمرة.

هنا لابد من تسجيل أن الفقه السني والفقه الشيعي معا ينظران لأصحاب الديانات السماوية الأخرى كquot;أهل ذمةquot; بل وquot;كفاراquot; من الدرجة الثانية بالنسبة لغيرهم من غير المسلمين، وثمة فتاوى تحذر حتى من المصافحة تجنبا quot;للنجسquot;، وتفرض مواصفات على السلام عليهم! وقد نشر كتاب عرب وعراقيون كثيرا من هذه الفتاوى التي تنشر الكراهية والتحقير ضد أصحاب الديانات الأخرى، وإن كثرة من تلك الفتاوى نشرت خاصة بعد واقعة الرسوم الساخرة وبعد خطاب البابا فيما بعد.ونسأل هل من الصدف صمت العرب على مختلف المستويات عن حرب عصابات السودان العربية والمسلمة ضد مسيحيي الجنوب في دارفور، والتي ذهب مئات الآلاف منهم ضحايا لهذه الحرب الدينية والعرقية؟
إن الإسلاميين يشيعون شكاوى مستمرة من حرب وهمية تشن ضد الإسلام والمسلمين في الغرب بينما هم الذين ينشرون ثقافة كراهية الآخر وتبرير العنف ضده.

لقد نشرنا منذ سقوط نظام البعث سلسلة مقالات عن ظاهرة اضطهاد المسيحيين في العراق، وكان أحدها بعنوان quot;عار العدوان على مسيحيي العراق.quot; كما نشر بعض كتابنا هم أيضا مقالات عن الموضوع، غير أن ما يلفت النظر ويثير السخط أن الحديث عن الظاهرة صار نادرا، وأما المسؤولون الحكوميون العراقيون، وحسب علمنا، فإن أحدا منهم لم يشر مجرد إشارة لحرب تشن ضد المسيحيين، الذين لعبوا دورا كبيرا في تاريخ العراق الحديث في مجالات العلم، والطب، والأدب، والصحافة، والسياسة، والاقتصاد، والتعليم، وغيرها، مثلما لعبوا دورا مؤثرا في إغناء الثقافة والفكر العربيين في العهد العباسي.

لقد كان الحديث عن التطرف الطائفي وضحاياه قليلا حتى وقعت تفجيرات سامراء، وعمليات التهجير المتبادلة التي تمارسها قوى الإرهاب القاعدي ـ الصدامي والمليشيات الحزبية، وبالأخص عصابات الصدر الإرهابية، وقد وصلت الحالة لمرحلة يمكن وصفها في نظرنا بالحرب الطائفية، وهي حرب تتداخل مع حرب الإرهاب الصدامي والقاعدي، ومع التطهير الديني ضد المسيحيين والصابئة المندائيين.
إن الغريب أنه حتى المسؤولون الأمريكان والغربيون يصمتون عن حملات اضطهاد مسيحيي العراق! ونقول إنه حتى تقرير بيكر وهاملتون لم يشر للقضية برغم ما ورد في قسمه الأول من تحليل شامل ومعلومات كثيرة.
إن واجب الدفاع عن أصحاب الدينات الأخرى في العراق يقع خاصة وبالدرجة الأولى على الكتاب المسلمين الشجعان وقبل واجب الكتاب المسيحيين أو المندائيين.
إن أية انتقائية في تشخيص مشاكل العراق ومآسيه اليوم، وفي التعاطف مع الضحايا بلا استثناء، واجب مقدس على الساسة والكتاب العراقيين الحريصين على مصالح الشعب ومستقبل العراق.