هل حقا وصلت قناعة العراقيين الى ان الامن لن يعود للبلاد الا على يد حاكم (قوي) مستبد؟ وهل حقا ان أغلب العراقيين يرفضون بقوة تغيير واقعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟ هكذا بات يعتقد المراقبون لتطورات الاوضاع في العراق بعد سلسلة الاحداث الغريبة والمتلاحقة التي أذهلتهم وحيرت المواطن العادي قبل غيره.. ويمكن تلخيص أبرزها في الملاحظات التالية:

- انحسار هيبة الدولة العراقية عن مساحات جغرافية متنامية من أرض البلاد واستباحتها من قبل مجموعات مسلحة فرضت بقوة السلاح شرائعها وقوانينها على المواطنين فيها فيما أعلنت تحديها وتصديها للحكومة العراقية دون خوف من ملاحقة او عقاب.

- زعماء كتل سياسية اشتركوا اخيرا ولتقديرات من جانبهم في العملية السياسية يعلنون ان يوم التاسع من نيسان 2003 هو سبب المشاكل في البلاد ويؤكدون ان الصراع المسلح لن يتوقف الا بعد (تصحيح) ما تغير ذلك اليوم.

- مدن وقرى وحارات أصبحت ملاذا آمنا ومراكز تجمع وتجنيد وتمويل وتسليح لزمر من الداخل والخارج تشن منها هجمات منسقة ومؤثرة ليلا ونهارا على كل ما تعتقد انه يهدد بقاءها ونموها واتساع نفوذها سواء كان أشخاصا او مرتكزات ادارية وأمنية وخدمية واقتصادية تابعة للدولة الجديدة.

- ملثمون مدججون بالسلاح ينطلقون بسياراتهم في وضح النهار وامام عيون المواطنين من بيوت وبساتين اصبحت معروفة لتنفيذ هجمات حسب خطط مرسومة ويعودون (منتصرين) بعد ان قتلوا اكبر عدد من الناس فيما تقف قوات الامن عاجزة عن الرد او الملاحقة وليس كما يحصل في السعودية.

- مواطنون يشاهدون ويشخصون من ينصب منصة اطلاق الصواريخ ومدافع هاون اويضع عبوة ناسفة في طريق عام أو زقاق ليضرب بها مدرسة او مؤسسة حكومية او انبوب نفط او برجا للكهرباء او جسرا.. وكأن الامر لا يعنيهم .. فيما يلومون الحكومة والقوات متعددة الجنسيات ويتهمونها بالعجز عن توفير الامن والاستقرار والنفط والكهرباء!

- معممون وغير معممين يحرضون في العلن على الكراهية ويحللون القتل والتخريب باسم الدين و(الثوابت) ويصولون ويجولون بحرية في مدن العراق وامام عدسات فضائيات ناطقة بالعربية.

- حدود مستباحة يجتازها دون رقابة حكومية العائد لوطنه من الغربة مثلما يتسلل عبرها مهرب السلع والاموال والسلاح وملتح قاصد الموت والدمار.

- اصحاب كفاءات علمية وسياسيون ومثقفون يسقطون واحدا بعد الاخر في وضح النهار في عمليات اغتيال منظمة تستهدف طاقات البلاد.. وسيارات مفخخة تنثر الموت والدمار.. ويفلت الجناة وكأنهم أشباح.

- مسؤولون حكوميون يعلنون مطاردة مرتكبي جرائم القتل التخريب والقاء القبض على بعضهم.. ولكن دون الكشف عن هويات الفاعلين وانتمائهم كما تفعل السعودية.

- رئيس الوزراء المنتهية ولايته يزور تركيا دون علم حكومته.. ورئيس الجمهورية يحتج على الزيارة.. فيما سبقه زعيم التيار الصدري الشاب في زيارة عدد من بلدان الجوار واستقبله بحفاوة ملوك ورؤساء تلك الدول دون ان يعلم العراقيون عن تفاصيل تلك الجولات.

- معلومات سربتها الاسبوع الماضي مصادر أمريكية تشير الى ان الادارة الامريكية تبحث عن رجل (مستبد مثل صدام حسين) تسلمه دفة الحكم في العراق بعد ان يأست من ( اقناع) قادة الاحزاب الشيعية بفك ارتباطاتهم السابقة بايران .

- زعيم القائمة العراقية يدعو الى فتح قنوات حوار مع المسلحين دون ان يفصح للعراقيين ماهية مطالب هؤلاء المسلحين خصوصا وانهم لا يستهدفون بتفجيراتهم انسحاب القوات الاجنبية من البلاد.

- تغيرت بصورة ملحوظة لغة المواطن العراقي وسلوكياته ناهيك عن مظهره.. فقد انتشرت ثقافة التطرف الديني والمذهبي والتشدد واللجوء الى العنف كوسيلة للتعبير عن الرأي.. واصبحت عبارات مثل quot;الديمقراطيةquot; وquot;حقوق الانسانquot; وquot;التعدديةquot; تثير غضبهم واستياءهم .. وكأنهم باتوا متفقين دون وعي على رفض التغيير واضاعة كل فرص التقدم والازدهار.

- فساد مالي وسرقات علنية للمال العام دون خجل او حياء او محاسبة.

- غياب الاهتمام بالقطاعات الاقتصادية والصحية والتعليمية والخدمية رغم تخصيص مبالغ كبيرة لهذا الغرض.

لقد أصبح المواطنون العاديون يشككون بقدرة أية حكومة على فرض سيادة القانون واعادة الامن والطمأنينة لربوع البلاد.. مشيرين الى عدم استيعابهم سياسة التخبط في محاولة ايجاد الحلول للمشاكل الامنية الراهنة والتي تتطلب مزيدا من الكفاءة والعزيمة والشدة والحزم والاجراءات الرادعة لآعادة الاوضاع لطبيعتها.
المواطنون يتساءلون عن أسباب تردد الحكومة لحد الان في حسم مشكلات بالغة الخطورة مثل تمرد بعض المدن العراقية واقفالها امام اي تواجد حكومي .. وما هي تبريرات الاخفاق في فرض هيمنة الدولة على كل مناطق العراق وليس داخل المنطقة الخضراء فقط دون غيرها.

المواطن العراقي يريد حكومة قوية (بالارادة والكفاءة والعزيمة وليس بالسلاح) ومسؤولين متنفذين يوفرون له أمنا وطمأنينة دون خوف من ارهابي متسلل او لص محترف او قاطع طريق .. ولا يريد ان ترغمه ظروف البلاد الراهنة على تناسي كل الحرمان الذي كان يعانيه ابان عهد الدكتاتورية البائد.. والحنين الى فسحة الامن المصطنع والطمأنينة الزائفة آنذاك.. علما ان المواطن يدرك يقينا ان بقايا العهد الدكتاتوري متورطون مع الارهابيين في زعزعة الامن وبث الرعب والخوف في البلاد.
لقد سبق ان قلنا ان ما يجري في العراق ليس احترابا بين سنة تضررت مصالحها.. وشيعة استحوذت على تلك المصالح كما يزعمون.. وانما هو صراع بين ارادتين.. الاولى يمثلها ملايين العراقيين الذين قالوا (نعم) للتغيير .. وبين جماعات تريد العودة لآيام ما قبل التاسع من نيسان عام 2003 , ومن بينها السني والشيعي والعربي والكردي والتركماني والسرياني والكلداني وغيرهم.
ان ترديد عبارة (السنة) عند الحديث عن الشأن العراقي ووصفها بالطائفة المهمشة والمغبونة والمغيبة والمنزوية ما هو الا محاولات لدق اسفين بين ابناء الشعب العراقي.. وتشويه مقصود للحقيقة.

يدعي البعض في دول الجوار انهم قلقون من ظهور (هلال) شيعي يهدد (بدرا) سنيا ألفت ضياؤه النخب الحاكمة في المنطقة.. ونحن نرد ونقول.. ان ما يقلقنا هو ظهور هلال ارهابي سرعان ما يكتمل ليصبح بدرا يلف العراق والمنطقة والعالم.

ان ابواب العملية السياسية في البلاد ما تزال مفتوحة أمام جميع العراقيين.. ومنهم البعثيون.. بشرط اقتناعهم وقبولهم بعملية التغيير ونبذهم الطوعي لجميع مفاهيم العنف والكراهية والاستئثار بالسلطة، وتنديدهم بجرائم الحكم الكتاتوري البائد, واذا كانوا يؤمنون حقا بمبدأ الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة والاعتراف بحق الاخرين وحريتهم واحترام حقوق الانسان، فلماذا هذا (الحياء) من اعلان تلك المبادئ في بيان صريح بدل الغاء هذه المفاهيم والعبارات تماما من قاموسهم وخطابهم السياسي كما هو واضح في بياناتهم وتصريحاتهم التي تنقلها الفضائيات؟

ان وحدة الشعب الالماني.. بعد هزيمة الفاشست أمام قوات الحلفاء ابان الحرب العالمية الثانية لم تكتمل بدمج المسؤولين عن الابادة البشرية في العملية السياسية آنذاك.. وانما بمعاقبتهم والابقاء على شواهد جرائمهم (المحارق البشرية) لكي تتذكرها الاجيال القادمة والبشرية جمعاء ومن أجل تفادي تكرار المأساة.. وهذا ما يدعوا العراقيين الى المطالبة بانزال عقوبات مشددة بحق مرتكبي الجرائم من النظام السابق ليكونوا درسا لكل المغامرين, وابقاء سجن قصر النهاية (مقر المخابرات) سيء الصيت كواحد من أبرز الشواهد على همجية العهد البائد ومريديه.

فهل حقا ان الامن لا يستتب الا في ظل دولة استبدادية؟ وهل حقا ان الحرية لا تجلب سوى الانفلات والفوضى؟ سؤالان لن يجيب عنهما سوى من يعنيه الامر.. المواطن العراقي.

[email protected]