في مثل هذا اليوم قبل ثلاثة أعوام لم تسقط بغداد كما يحلو لأرامل صدام حسين أن يولولوا، بل سقط صنم بغداد وطاغيتها وانفرط عقد حكمه وفر معاونوه كالجرذان، بينما كان السخيف المدعو الصّحاف يواصل أكاذيبه عن انتحار الغزاة على أبواب بغداد، وفي لحظات تبخر الصحاف واختفى، حتى ظهر بعد ذلك عبر إحدى الفضائيات بهيئته الحقيقية دون صبغة الشعر التي كانت تشبه ورنيش الأحذية الأسود وقد تلاشت تلك العجرفة التي طالما لازمته إبان الاستئساد بجلادي النظام البائد، وانطلقت حقبة جديدة في العراق اختلطت فيها الأوراق، فصار الإرهابي quot;مقاوماًquot;، وأصبح المأزوم quot;بطلاًquot;، وقدمت quot;ميديا العهرquot; العربية الموتورين باعتبارهم ممثلين للشعب العراقي، وتطوع للخوض في شؤون العراق والحديث باسم شعبه كل ناعق ومكلوم على سقوط ولي نعمته في quot;الحفرة إياهاquot;، وكان حينها بلحيته المستعارة القبيحة، وعينيه الزائغتين، يجسد حقيقته كمستبد جبان، لم يجرؤ على إنهاء حياته بكرامة، كما فعل أدولف هتلر مثلاً، فما معنى أن يعيش بضع سنوات مهيناً وقد انتهى كل شئ،، إنهار ملكه وتبخر رجاله، ونفق ولداه اللذان طالما أراقا دماء خلق الله واعتديا على أعراضهم وسلبوا أموالهم وشتتوا شملهم، لا لشئ إلا لأنهم اختلفوا مع طغيان دولة سئ الذكر أبيهما، وأحياناً ارتكبا تلك الجرائم من باب النزق والاستهتار وربما التسلية .

.....
أظن ـ وليس كله إثماً ـ أن غاية ما ينشده العراقيون من الأعراب أن يدعوهم لحال سبيلهم، فلا يزايدون عليهم، ولا يتصرفون كأنهم عراقيون أكثر من أهل بغداد أو البصرة أو الموصل، فإذا سألت أحدهم في شبه جزيرة العرب أو مصر أو الشام عن رؤيته لحل أزمة العراق، سوف يشنف أذنيك بخطبة عصماء عن الاحتلال الذي اندحر، ومشروعه الذي باء بالفشل، ونعت حكام العراق بكل ما تجود به القريحة العربية من شتائم وسخائم، واختتم مطالباً بضرورة أن يحمل المحتل عصاه ويرحل اليوم وليس غداً، وإذا استجمعت أيها العراقي المسكين قواك واستعنت بالصبر الجميل لترى quot;آخرتهاquot; مع هؤلاء الأعراب، إذ تسأله عما سيحفظ الأمن والنظام في البلاد، ويحول دون وقوع اقتتال داخلي، سيرد عليك بسخرية قائلاً quot;ألا يحدث اقتتال الآن ، وأين هو الأمن والنظام حالياً ؟quot; .
وإذا سألته عن الحل وعما إذا كانت بلاده مستعدة ـ مثلاً ـ لإرسال قوات عربية لتحل محل قوات التحالف حتى لا يحدث فراغ في السلطة سيحيلك مجدداً إلى المربع الأول من المناقشة، وينهل من قاموس الشتائم والهجاء العربي مفردات جديدة، ليسب الاحتلال، وربما يتهم شعوباً كاملة كالأكراد بالخيانة، أو الأغلبية من الشيعة بالتواطئ والولاء لإيران، كما قال الرئيس المصري لفضائية العربية، في حوار سمح لنفسه فيه أن يتعرض لشؤون العراق والسودان والفلسطينيين، وكل أزمات المنطقة، لكنه لم يخض في ما يجري ببلاده من مآس وكوارث بسبب التصاقه بمقعد الحكم منذ ربع قرن، واستئساد أسرته على خلق الله، وفساد حاشيته وتدني قدراتهم وتبلد أدائهم .
سيحدثك الأعرابي عن فظائع سجن quot;أبو غريبquot;، وسيتأفف كثيراً من الصور التي لم يكشفها الإعلام العربي بل الغربي، لكنه لن يجرؤ على الاقتراب من سجون المزة وطرة والعقرب وغرف التعذيب الملحقة بمقار المباحث في بلاده، كأن التعذيب والقمع والاعتقال الإداري غير القانوني والقتل خارج القانون كلها أمور مقبولة مادامت تتم بأياد quot;وطنيةquot;، وهي مجرد خلافات بسيطة يمكن حلها داخل حدود ما يسمى quot;الوطنquot; مجازاً .
وحين تطرح سيرة العراق على الكائن الأعرابي سيسخر من الانتخابات التي جرت به، وينعتها بديمقراطية الطوائف ويتساءل مستنكراً كيف تكون انتخابات نزيهة وهي تجري تحت راية الاحتلال، بينما يصف الانتخابات الفلسطينية ـ التي جرت أيضاً تحت الاحتلال ـ بأنها أكثر الانتخابات نزاهة في العالم، وأن خيار الاقتراع لحركة أصولية تنتمي للتاريخ مثل quot;حماسquot; هو الديمقراطية كما ينبغي أن تكون، وسيتقفز الأعرابي المنافق على حقيقة أن بلاده إما أنها لا تعرف الانتخابات أساساً، أو أنها تدار بواسطة ميليشيات الحزب الحاكم، وبلطجية المباحث، فهذه الممارسات مقبولة مادامت تتم بأيادٍ وطنية وفي إطار quot;الداخلquot;.
وسيشحذ المخلوق الأعرابي كل طاقاته ليقنعك بأن العملية السياسية في العراق محكومة بالفشل مقدماً، لأنها ـ برأيه ـ تقوم على المحاصصة الطائفية بينما يصبح تجاهل واضطهاد الأقليات الشيعية والقبطية وغيرها هو الديمقراطية كما ينبغي أن يتعلمها العالم من جمهوريات الموز العربية .
مرة أخرى، أظن أن غاية ما ينشده العراقيون من الأعراب أن يدعوهم لحال سبيلهم، ويحتفظوا بنصائحهم المجانية لأنفسهم، ويهتموا بشؤونهم وبلاويهم قبل أن يندبوا أنفسهم للخوض في شؤون الغير، بينما هم مجرد أدوات وquot;دروع بشريةquot; في ايدي حكوماتهم المستبدة، وضحايا للعهر والتضليل الإعلامي في بلادهم .

.......
لا يتعلم الأعراب ـ الذين هم أشد كفراً ونفاقاً ـ من خيباتهم ونكساتهم ونكباتهم، بل يكابرون في ديماغوغية، ويعيد التاريخ نفسه، كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس، ولم يسمر بمكة سامر، فما حدث في كربلاء يستنسخ مرة أخرى حين سقطت دولة بني أمية وفرش أبو العباس السفاح السماط على جثث بني عمومته، وابتلي الله بغداد بطغاة التاريخ من زياد ابن أبيه إلى السفاح مروراً بالحجاج بن يوسف الثقفي وصولاً إلى صدام وابن أمه برزان ـ هذا الاسم يكفي ليكرهه المرء ـ حتى يكاد المرء أن يرى التاريخ والجغرافيا يتآمران على إخواننا العراقيين، فالتاريخ ابتلاهم بأراذل الحكام وأكثرهم دموية وانحطاطاً، والجغرافيا وضعتهم وسط متناقضات لا سبيل لتصالحها، بين الكرد والفرس والترك والعرب، فيصبح العراق بوتقة لصراعات كل هذه الأمم المتناحرة التي تذهب في بغض بعضها البعض إلى أبعد حد، وتمسي مسرحاً لحروب بالوكالة بينها، وهو ما حدث طيلة التاريخ، ويحدث الآن أيضاً بصورة أو أخرى .
لا يتعظ الأعراب، فيلدغون من ذات الجحر مرات، ويرتكبون الخطأ نفسه مراراً، ويضيقون ذرعاً بكل نصيحة أو حتى دعوة للتأمل والتفكر، ويهتفون خلف كل دعيّ مادام يتماهى مع الغوغاء وذهنية القطيع، وينطحون رؤوسهم في الصخر حتى تسيل دماؤهم فيعلنون انتصاراتهم الموهومة، ويتوقفون طويلاً أمام الصغائر فيقتتلون عليها بينما بيوتهم خربة وأطفالهم جوعى مرضى، وحين يفيقون يبررون أخطاءهم، فلا يفعلون كما تفعل بقية أمم الأرض، كالألمان مثلاً أو اليابان أو الطليان الذين نبذوا النازية والفاشية واعتبروها جرائم ودروساً تاريخية تعلموا منها، أما الأعراب فيلجئون للتبرير ويلوكون نفس الحجج، لا لشئ إلا للانتصار لنفوسهم المأزومة، وتسويغ هزائمهم وتعليقها على مشاجب ممجوجة مثل التآمر الخارجي تارة، وإسرائيل تارات وحقد الأمم عليهم، ولا أفهم لماذا تحقد عليهم أي أمة في مشارق الأرض ومغاربها، بينما هم في الدرك الأسفل حضارياً، يعيشون عالة على منجرات الآخرين ومعوناتهم، وقد صاروا خلال الأعوام الأخيرة quot;أشرار الكونquot;، لذلك يتحدثون عن quot;تحسين صورتهمquot; بدلاً من quot;تحسين الأصلquot; ومن يواجههم بالحقيقة يصنف حاقداً .

......
والحق، أن حكاماً كثيرين في المنطقة ترتعد فرائصهم مما سيحمله المستقبل لو نجحت تجربة العراق، وأخص هنا ثلاثة أنظمة تسعى إلى تلغيم العراق بكافة الطرق، من الدفع بعناصر الإرهاب والصبية المحتقنين للذهاب إلى العرق للاتخراط في صفوف جماعات الإرهاب المسماة بالمقاومة، وسوف يكشف لنا الغد عن تفاصيل وحكايات تورط الجيران ربما تتجاوز قصص عهد صدام، مروراً بإطلاق آلة الإعلام لتنهش جسد العراق وتمزق أوصاله بخبث ومكر، وصولاً إلى استقبال غلمان نظام صدام، ورعاة الإرهاب في العراق، ولعل إطلالة على ما تنشره الصحف الحكومية في مصر من مقالات لبعثثين سابقين، تثير سؤالاً مشروعاً عن المصلحة التي تحققها مصر من فتح أبوابها وصحفها لهؤلاء المنبوذين من شعبهم، والذين ألقى بهم التاريخ إلى سلة مهملاته ؟
أدرك أن العراق الآن يمر بمخاض صعب، لكن ثلاثة أعوام ليست بالشيئ الكثيراً في عمر الشعوب والأمم، لكني أدرك أيضاً أن أملاً كبيراً يصل إلى درجة النبوءة بأن العراق سيصبح منصة لإطلاق الحريات في المنطقة، وأن العراق يكفيه فخراً أنه ودع إلى الأبد لعبة الحاكم المؤبد، وسوف يتجاوز العراقيون محاولات استدراجهم لفخ الطائفية وجحيم الحرب الأهلية، وقريباً سينعم العراقيون بوطن جميل كالحديقة، يتسع لكل الزهور، ويجمع بين حسنات الماء والنفط والحرية والتداول السلمي على السلطة والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، بينما ستشيخ الأنظمة التي تتآمر عليه الآن، وسيرحل الأميركيون والانكليز وغيرهم، ويبقى العراق .
غير أنني ومنذ هذه اللحظة أناشد العراقيين ألا يتسامحوا مع كل من خذلهم، وكل من تآمر عليهم، خشية أن تطاله ريح التغيير التي هبت بالفعل، ولم تعد أي قوة على الأرض قادرة على إيقافها، وإن غداً لناظره قريب .
[email protected]