القسم الرابع
مع ان المنطق يقول أن لكل فعل ردة فعل، الاان ما وصلنا من قراءات تاريخية مجتزأة من تأريخ الأيزيدية يدل بما لايقبل الشك أن هذه المرويات كتبت بعين واحدة ووفق توجه غير محايد، وبقصد أخفاء حقائق كثيرة عن ابناء هذه الديانة لغرض وضعهم في مشهد بائس لايمكن للقاريء أن يطلع على حقيقة تخالف هذا المشهد، ولهذا كان الأيزيدي دوما منكسراً ومهزوماً ومسبياً بل وقابلاً بكل مايتعرض له وفي هذا الأمر خلاف واضح للحقيقة وتحريف عميق للواقع ، ويقينا لو سألت أي عراقي عن حقيقة التعتيم الذي لحق بالتأريخ الأيزيدي بالأضافة الى التشوية والتخرصات لفترة ليست بالقصيرة من عمر الزمن، مما جعل العديد من أهل العراق فيما يخص أيزيدية العراق يعتقدون بصحة التخرصات والمرويات المشوهة عنهم، حيث لم يكن هناك البديل الذي يعتمد الحقيقة والنقل الصادق أذ كان الأيزيدية يفتقدون الى وجود كتاب منصفين ومحايدين يكتبون حقائق تاريخهم، ومن يقلب في كتب التأريخ الحديث يجد حيفاً وظلماً كبيرين لحق الأيزيدية دون أن يكون دافعها سوى الغل والحقد والكراهية التي تعشش في ضمير من تصدى للكتابة عن هذا الجانب، او انه كتب خشية من سطوة التطرف او المغالاة في الفكر الديني أو القومي. ونلاحظ أن جميع الوقائع والمعارك كان فيها الأيزيدي الضحية المستكين والخانع الذي يستسلم لقدره دون ادنى موجبات القتال المقابل أو حتى الدفاع عن النفس، وهو منطق غير مقبول وغير صادق لأن الحال في مواجهات قد تكون خاسرة ولكنها على الأقل تسجل الجزء الثاني من الحقائق التأريخية، وجميع الكتب تتحدث عن حملات وحروب وقتال يتم شنها من قبل حكام وسلاطين وجيوش لغرض سحق الأيزيدية وإنهاء وجودهم والقضاء عليهم نهائياً، مع أن النتيجة اليوم أننا بتنا نجد الأيزيدية أكثر تمسكاً بديانتهم وبتأريخهم وبرجال دينهم أكثر من ذي قبل، بل وتوسعت أعدادهم وأنتشرت في مشارق الأرض ومغاربها.
عموماً فأن أغفال ذكر المعارك التي قادها زعماء أيزيديون للذوذ عن ارواحهم وشرف عوائلهم وأموالهم، ومواجهة جيوش جرارة وتتسلح بكل صنوف الأسلحة الفتاكة في زمانها ، وفي مواجهات غير متكافئة بكل ما يعني عدم التكافؤ، من أجل الحفاظ على الأقل على الوجود الأيزيدي في تلك القرى البائسة والنائية والتي لم تصلها الحضارة والتطور ولانظرت لها السلطات التي تعاقبت على حكم العراق حتى اليوم بعين الأنصاف والوجدان .
ولم نقرأ في التاريخ العراقي الحديث ما يذكر تلك المواجهات بسطر واحد، وكأن الأيزيدية ليس لهم تأريخ، وليس لهم رجال، وليس لهم القدرة على المواجهة، او على الأقل ردة فعل أو موقف شجاع لأيزيدي يواجه بشراً مثله، اليس بين الأيزيدية من ذوي البأس الشديد ومعرفة فنون القتال ؟ وخصوصاً أذا عرفنا أن قتالاً كان يدور بين العشائر الأيزيدية أنفسها لأسباب عديدة !!
ويذكر السيد صديق الدملوجي في كتابه اليزيدية المطبوع 1949 عن ( خضر محمد كهية ) الذي كان يحدثه عن الحملات العسكرية التي شنتها السلطات العثمانية وواجهها الأيزيدية ومعهم محدثه، ومن اكثر ما كان يؤلم هذا المقاتل ما تقوم به الجيوش العثمانية من اعتداء على النساء في تلك القرى وآسرهن وأقتيادهن معهم، وخضر محمد كهية رئيس الهبابات في منطقة سنجار.
كما يذكر عن ( حمو شيرو ) وهو من عشيرة الدنادية، وقد صار قائداً في معارك الدفاع عن الجبل وابلى بلاءاً حسناً، وصار له صيتاً وقوة وأنتشرت أخباره وخشي منه الأعداء حتى أن الحاكم الأنكليزي ( لجمن ) أرسل بطلبه ليعينه حاكماً على جبل سنجار لما له من هيبة وسطوة وقوة، وبقي هذا الفارس حتى بلغ المائة والعشرين عاماً دون أن يدخله الخرف ونقص الحواس، ومن بعده صار ولده خديده قائدا مرموقا.
كما يورد ذكر كل من خلف بن الشيخ ناصر وداوود الداوود والشيخ خضر بن عطو وصفوق باشا.
كما تتزامن مناسبة أزاحة الستار عن النصب التذكاري لأيزيدي ميرزا قبل ايام في ناحية بعشيقة في أقليم كوردستان العراق ليدلل على وجود الرجال الذين غبنهم كتاب التأريخ من غير المحايدين والذين يبغون رضا السلاطين في كل مكان وزمان ولم يذكرونهم بأنصاف، بينما بقيت الذاكرة الشعبية تحتفظ لهم بما سجله كل منهم في حياته، وإيزدي ميرزا باشا الذي تولى ولاية الموصل للفترة ( 1650 ـ 1651 ميلادية ) ( 1059-1060 هـ ) في زمن السلطان العثماني مراد الرابع الذي أمر بترقيتة من رتبة فارس ضمن الجيش العثماني ليتولى ولاية الموصل بعد الدور البطولي الذي أبداه في معركة فتح بغداد) سنة 1638 ميلادية 1047 - هـ ).
ومن الغريب والبعيد عن الحقيقة ان يذكر المؤرخ السيد ياسين العمري في ( الآثار الجلية ) أن مرزا بك ذهب الى اسطنبول مركز الخلافة العثمانية متوسلاً بمنحه منصب ولاية الموصل فلم يتيسر له ذلك، مما دفعه للعودة الى دياره وجمع اعوانه المسلحين ليقطع الطريق وينهب القوافل، وتمكن ( شمسي باشا ) ان يقاتل عصابته ويقبض عليه ليرسله الى السلطان محمد بن ابراهيم الذي أمر بقتله.
غير أن الحقيقة التأريخية أن الولاية لاتطلب بتوسل أنما تقوم المرجعية بناء على معلومات أكيدة وتقارير ولاتها بتنصيب الوالي، ومما يذكره التأريخ أن أيزيدي ميرزا تمت ترقيته الى رتبة ( باشا ) ومثل هذه الرتب تمنح من الباب العالي حينها ولأسباب معروفة، ولايعقل أن يتوسل أحد لمنحه الرتبة والمنصب، ولو لم تجد السلطنة القدرة والأمكانية والشجاعة لدى ايزيدي ميرزا لما تمت ترقيته من جندي الى والي، فقد ابلى المذكور بلاءاً حسناً في فتح بغداد في العام 1638 م حيث تميز بأندفاعه وقتالــه وشجاعته بحيث استحق ذلك التكريم بجدارة، وكنت شخصياً قد زرت النصب المذكور عند زيارتي لناحية بعشيقة قبل ايام من هذا الشهر 2006، ومن جانب آخر فقد شكل ( آل مندي ) ولاية لهم في منطقة حلب، كما تشكلت ولاية على ضفاف نهر البهتان بأسم ولاية قلب ويطمان، كما في منطقة اربل وجبال الصوران حيث أمر السلطان سليمان القانوني أن يتم تفويض ثلاث أمارات لشخص أيزيدي، كما في الموصل حيث ولي أيزيدي ميرزا باشا ولاية الموصل وهو ابن بعشيقة ليحكمها بما عرف عنه من شجاعة وحكمة ونفوذ.
ويلاحظ التستر والتغطية المتعمدة على أخبار القتال والحملات العسكرية التي أستمرت تشن من قبل السلطات العثمانية ومابعدها من رغبات لزعماء عشائر وحكام وولاة من أجل أجتثاث الأيزيدية وتحويلهم عن ديانتهم بالقوة، وبعد ان نضع المبررات والتبريرات التي تضعها هذه الجهات لقتالهم، وبعد ان يتم تمهيد الأرضية الشرعية في أصدار الفتاوى والفرمانات التي تبيح قتلهم وسبي حرائرهم والأستيلاء على اموالهم والأستيلاء على قرآهم وأراضيهم من قبل رجال دين متعصبين ومتطرفين يمهدوا الطريق للقتل والذبح والتشريد.
ولايتطرق أحد الى واقعة غاية في الأهمية وقعت في سنة 1200 هـ - 1785 م حين خرج والي الموصل عبد الباقي باشا الجليلي وتوجه من مدينة الموصل بأتجاه قرى الدنادية لغرض أستباحة القرى وقتل الأيزيدية، وتأديب القرى المجاورة لهم، ولدى وصوله مع عساكره هرب الأيزيدية الى الجبال والمغارات فارين بأرواحهم، وتركوا بيوتهم خالية فنهبتها العساكر على فقر موجوداتها وأنتشرت العساكر تبحث عن أي شيء للأستيلاء عليه، وتفرقوا عن قائدهم عبد الباقي باشا الجليلي حيث كان يقف غير بعيداً عنهم ومعه شقيقه ( عبد الرحمن آغا الجليلي ) وبقيت معهم مجموعة قليلة من الجنــود الحراس، فخرج عليهم ( نمر بن سيمو ) ويلقبه الأيزيدية ( نمر آغا ) ومعه عدد من الأيزيدية المقاتلين لايتجاوز أصابع اليد الواحدة وبأيديهم السيوف، وهجموا على القائد الذي تفرق عنه حراسه وهربوا، وحين هرب الحراس تخاذل بقية الجند الذين لاذوا في الوديان وهم منهزمين دون قتال، وما كان من نمر الا أن يجرد القائد من سيفه ويقتله ويقتل شقيقه عبد الرحمن ومن كان يقف معه، وفي هذه الأثناء تكاثر الأيزيدية وتابعوا الفرسان المنهزمين الذين القى الله الرعب في قلوبهم، ويتبعهم فرسان الأيزيدية يمعنون بهم تقتيلاً ويسلبونهم أسلحتهم وجيادهم ويعودوا بها الى قرآهم وبيوتهم المسلوبة.
هذه الحادثة وقعت بالقرب من قرية ( سميل ) الواقعة على طريق الموصل ndash; دهوك، وهي من أعمال منطقة كوردستان العراق، ونمر بن سيمو أو سيبو أو شيخو كما يذكره الكاتب الدملوجي له قصر في تلك المنطقة وهو رئيس عشيرة الدنادية، ولم يذكرها رواة حوادث تلك الفترة ولم يتطرق لها أغلب من كتب عن الديانة الأيزيدية بأستثناء الكاتب صديق الدملوجي الذي نقلها عن تأريخ جودت حيث ذكر ابياتاً من الشعر ضمن سرده للحادث يبين فيها الهروب الكبير للعسكر في هذه المعركة فيقول :
تفرق الكل حتى أن هاربهم أذا رأى غير شيء ظنه رجلا
وواقعة مهمة في تأريخ العراق الحديث وفي تأريخ الموصل لايتم اغماض العين عنها دون سبب، كما لم يساهم أحد من المؤرخين في تحليل أسبابها ودوافعها ولاحتى في المعاني العسكرية والأنسانية التي دلت عليها، ولو أن نمر بن سيمو كان متخاذلاً لكتب عنه الجميع دون وجل، ومما يلفت النظر أن العساكر في المناطق الأخرى بقيت دون حركة ولم يحرك احد قادتها ساكناً، وانتشرت الأخبار بسرعة البرق وزاد الرواة في تصويرها، حتى بدا أسم نمر بن سيمو مرعباً للعساكر التابعة للولاة العثمانيين في المنطقة، وهذا الأمر أدى الى قيام حاكم العمادية (( أسماعيل باشا البهديناني )) الى ان يحل ضيفاً على نمر بن سيمو تقرباً له وأتقاءاً لشره وليأمن على سلامة جنوده، ولم تستطع الحكومة ولا الولاة أن يستعيدوا سطوتهم على مناطق الأيزيدية بوجود نمر بن سيمو الا بعد مضي 14 سنة على تلك الحادثة.
وأذا كنا نريد تقليب ونبش الأسس التي أستندت عليها الكتابات التأريخية، وهذه الحادثة مثالاً على الغبن الذي لحق بالتاريخ الأيزيدي، نجد ان عدم أيراد مثل هذه الحوادث يشكل بتراً لصفحات تأريخية وتشويهاً لصورة من الزمن الأنساني، فقد تعرض الأيزيدية لمقاتل عديدة وشنت بحقهم حملات عززت بكتائب من الجيوش المدججة بالسلاح، تحت شتى الذرائع، وفي مرات كانت بحجج أنهم يقطعون الطريق ويسلبون القوافل المارة، وفي مرات أخرى بسبب الفتاوى التي تقاطرت فوق رؤوسهم دون رحمة، وفي مرات عديدة بسبب نزوة للوالي والحاكم ولأثبات قوته في المنطقة فلايجد سوى هذه المجاميع البشرية البائسة التي ابتلاها الله بالقتل والذبح والتشريد والأنعزال.
ولم يتعرض احد من الكتاب الى الحالة الأنسانية المزرية التي كان يعيشها الأيزيدية، فقد كانوا على الدوام خارج نظرة السلطات التي لم تعرهم ادنى أهتمام، وكانوا خارج تخطيطها وبرامجها العمرانية والتطويرية ، وبقيت قرآهم ومزاراتهم دون أدنى درجات الأهتمام، ومع كل هذا فقد بقي المجتمع الأيزيدي زراعياً ورعوياً منتجاً ومسانداً في العطاء للأقتصاد الوطني، لكون هذا المجتمع تحكمه قيم دينية وأجتماعية نبيلة وصارمة تصقل الألتزام الأجتماعي للفرد ليكون بالأضافة الى كونه منتجاً ملتزماً ونافعاً ضمن المجموعة البشرية التي يعيش وسطها تحكمه اعراف وقيم لايمكن للفرد ان يتخلص منها حتى وأن بدت بالية، الا ان منها مايتباهى به ال]زيدي في تمسكه بأعراف الكرافة التي يتميز بها ال]زيدية عن غيرهم من القوم في المنطقة.
واذا كنا نقول أن الأيزيدية نمت في لالش وتحصنت في مكانها المقدس، فلم هذا الأنتشار الواسع للأيزيدية في تركيا وفي سورية وفي مناطق متباعدة في العالم كأرمينيا مثلا ؟ ولغرض التعرض لأسباب الهجرات التي تزامنت مع الهروب ومحاولة النجاة، فقد توسعت المساحة التي تلوذ بها العائلة الأيزيدية خشية من الفتك بها والغدر بها كلياً، وهذا الانتشار يربطه خيط متين من العلاقات والطقوس واللغة، فبالرغم من الأنتشار في مناطق عربية كقرى الموصل أو سورية أو حتى القرى والمدن التركية والأرمنيــة، فقد بقي الأيزيدي يتحدث بلغته الدينية ( الكوردية ) لم يتغير ولم يحاول أن يلغي هذا الأختلاط بالمجتمعات التي ساكنها على خصوصيته الدينية والقومية.
التعليقات