نهاية صيف العام 2002 استدعاني السفير الفرنسي شارل هنري داراغون،من بين سوريين آخرين، ليستمع إلى وجهة نظري حول قضية بدا أنه يعمل لأجلها، بالتشاور مع الحكومة السورية، منذ أن كان في دمشق وقبل أن ينهي مهمته سفيرا لبلاده في سوريا استمرت خمس سنوات وانتهت أواسط الصيف المذكور. خلال وجوده في دمشق بنى داراغون علاقات واسعة مع الأوساط الحكومية والمعارضة على حد سواء. وقد ساعدته دماثته وتهذيبه، وإجادته اللغة العربية إلى حد معقول جدا، على فهم المجتمع السوري، ونظامه، ربما أفضل مما فهمه أي سفير فرنسي سابق في دمشق منذ أن غادرتها الجيوش الفرنسية في نيسان / أبريل من العام 1946. وكان حبه للشرق والعرب عموما، وسوريا على وجه الخصوص، طريقه إلى قلوب الجميع. ولم تكن الرتبة الديبلوماسية التي منحت له مع قلة قليلة من الديبلوماسيين الفرنسيين، وزير مفوض أو سفير مطلق الصلاحية Pleacute;nipotentiaire، إلا تعبيرا عن الأهمية التي تحظى بها سوريا في إطار الاستراتيجية الفرنسية الشرق أوسطية، أو ما سمي بـ quot; سياسة فرنسا العربية quot; ، منذ نشوء الديغولية كاتجاه سياسي معبر عن مصالح البرجوازية الوطنية الفرنسية، التي ينفي نيكوس بولانتزاس وجودها أصلا في أوربا كلها، وليس في فرنسا وحدها. ذلك رغم الالتباس التضليلي الذي ينطوي عليه هذا المصطلح، خصوصا وأن ديغول، وعلى عكس الخرافة المنتشرة بشأن موقفه من العرب،لم يكن يحمل في الحقيقة أي احترام لهؤلاء، بل على العكس من ذلك تماما؛ إذ كان يطلق عليهم، حرفيا، صفة quot; الكراكيب quot; Camelotes، أي مجموعة سقط المتاع المنزلي الذي لا يصلح لشيء سوى.. الرمي في سلة النفايات!

قال داراغون الذي يعمل الآن سفيرا لبلاده في الرياض: إن الحكومة الفرنسية، وبالاتفاق مع حكومة بلادكم، على وشك أن ترسل فريقا من أكثر الخبراء مهارة وتأهيلا في فرنسا من أجل المساعدة في عملية الإصلاح الإداري والمالي والاقتصادي التي ينوي الرئيس بشار الأسد القيام بها. وأوضح أن مهمة الفريق،التي قد تستغرق عاما كاملا على نفقة الحكومة الفرنسية، ستكون إعداد تقرير مفصل عن المشاكل المزمنة التي يعاني منها الجهاز الإداري للدولة، بما في ذلك جهاز المالية العامة، وتقديم توصيات بشأن الحلول المقترحة إلى الرئيس الأسد. وكشف عن أن فريقا آخر متخصصا بإصلاح الجهاز القضائي قد يلحق بهذا الفريق بعد انتهاء مهمته. (هذا ما حصل في العام 2004 فعلا). وتحدث عن أشياء أخرى ليس من اللائق التطرق إليها لأنها من quot;أمانات المجالسquot;!
كان المشروع المذكور جزءا من quot;برنامج استراتيجيquot; فرنسي متكامل يهدف إلى إعادة هيكلة جهاز الدولة في سوريا وجعله أكثر تناغما مع القرن الجديد، وأكثر تجاوبا مع متطلبات quot; الاقتصاد الرقميquot; المعولم؛ خصوصا وأن أي تغيير ذي شأن لم يطرأ عليه في الجوهر منذ أن هندسه الفرنسيون أنفسهم إبان فترة الانتداب التي استمرت 26 عاما. والأهم من هذا كله توفير بنى فوقية وتحتية قادرة على استقطاب الرساميل الفرنسية التي تقلصت مساحات حضورها في شتى أرجاء العالم، ولاسيما مناطق نفوذها التقليدية في أفريقيا التي quot; اكتشفهاquot; الأميركيون حديثا!
ولعل الأهم من هذا كله، من وجهة النظر الفرنسية بالطبع، أن بشار الأسد كان قد حدّث الفرنسيين عن برنامجه quot;الإصلاحيquot; الذي ينوي الشروع في تنفيذه فور انتقال مقاليد الأمور إليه. وما من شك في أنهم أخذوا كلامه على محمل الجد المطلق، حتى وإن لم quot; يمسك شاربيه quot; أمامهم كما يفعل الذكر الشرقي عادة! ولا أدلَّ على ذلك من الحملة الديبلوماسية التي قادها الرئيس شيراك لترويج بشار الأسد أوربيا وعالميا كما يروج التاجر لأي سلعة، والتعامل معه أبويا كما لو أنه يتعامل مع أي صبي يتيم فقد والده للتو، وخرْقِه واحدةً من أهم قواعد البروتوكول، وهي استقباله في قصر الإليزيه كأي رئيس دولة، حتى قبل أن تكون له أي صفة رسمية (سوى رتبة عقيد في الحرس الجمهوري)؛ ثم في فترة لاحقة (العام 2002) تأكيده أمام البرلمان اللبناني على أن الانسحاب السوري من لبنان هو quot; شأن سوري ـ لبناني خاضع للاتفاقيات القائمة بين البلدين quot;، وأنه quot; يتفهم ارتباط ذلك بحل نهائي شامل للصراع العربي ـ الإسرائيلي quot;. وبتعبير آخر: منْحه الأوليغارشية المافيوية ـ المخابراتية السورية الحاكمة تفويضا مفتوحا بإدارة لبنان ونهبه وقمعه إلى ما شاء الله!

ما من ريب في أن البرنامج الفرنسي الهادف إلى إعادة تأهيل النظام السوري إنما كان في إطار تقاسم النفوذ مع واشنطن، أكثر من كونه تعبيرا عن النية بفتح quot;تكيةquot; خيرية. ففي السياسة الدولية ليس ثمة مجال لتكايا وجمعيات من هذا النوع. وقد اتضح ذلك على نحو جلي بعد قرار واشنطن إطاحة النظام العراقي بالقوة المسلحة، بكل ما يعنيه الأمر من قص أحد جناحي شيراك و quot; السياسة الديغولية quot; التقليدية في منطقة حوض المتوسط الشرقي. لكن الأهم من ذلك كله، هو أن quot;البرنامج السوريquot; الذي وضعه شيراك كان قرينة غير مسبوقة في وضوحها على الطريقة السوقية المبتذلة التي يفهم بها الفرنسيون الديغوليون، واليمين الغربي عموما، قضية quot;الإصلاحquot; بشكل عام، وفي العالم العربي على وجه الخصوص. فهي طريقة، ولندع حسن النوايا واللغة الحداثية جانبا، لا تختلف كثيرا عن منطق quot;التنظيماتquot; العثمانية التي وضعها السلطان عبد المجيد الذي كان، ويا للمفارقة، أول عثماني يتعلم الفرنسية! وبصيغة أخرى: طريقة تعتقد أن بالإمكان صناعة مرتديللا لذيذة من لحم الفطائس وكروش الجيف المتفسخة!
الدليل الآخر الذي لا يقل وضوحا على ابتذال quot;البرنامج الشيراكيquot; لإعادة تأهيل الدولة السورية، هو الفريق الاستشاري الذي أرسلوه في العام 2004 لإصلاح الجهاز القضائي. والواقع إن التوصيات التي وضعها الفريق كانت أقرب إلى الفضيحة منها إلى أي شيء آخر، إذا ما نزعنا عنها القشور الشكلية. فقد كان أعضاؤه مقتنعين تماما بإمكانية إصلاح القضاء مع استمرار حالة الطوارئ في آن معا! وهو ـ بالمناسبة، وليس دون مفارقة تصفع العقل ـ ما يتقاطع تماما مع هذيانات منظمات حقوق الإنسان السورية التي تطالب، مثلا، بإلغاء محكمة أمن الدولة العليا، بسبب استثنائيتها ولا شرعيتها ولا دستوريتها (وهو موقف صائب تماما)، لكنها ترسل محاميها زرافات ووحدانا للمرافعة أمامها، وترفض مقاطعتها رغم كل النداءات التي وجهناها لها!
من الواضح أن السفير داراغون، بما حصّله من خبرة خلال سنواته الدمشقية، وحسب ما فهمته منه شخصيا، كان يعي حقيقة أن هذا النظام غير قابل للإصلاح أبدا. ولعله لم يبخل في إخبار حكومته بذلك. غير أنه كان مجبرا على التفاعل معه بحكم وظيفته. وقد جاءت تصورات بعض من استمزج آراءهم من خبراء سوريين تكنوقراط مستقلين، وشخصيات سورية معارضة مقيمة في باريس أو تعرّف عليها في دمشق، لتدعم وجهة نظره بشأن مهمة الفريق والمشاكل السرطانية التي يعاني منها جهاز الدولة الإداري والمالي في سورية، فضلا عن القطاعات الأخرى برمتها. أما بالنسبة لي، وبحسب ما فهمته منه، فإنه كان معجبا بالبحث الذي أعددته في العام 1989 في الجامعة الأميركية في بيروت تحت إشراف شيخ الإقتصاديين الأكاديميين العرب يوسف الصايغ، وأراد أن يسمع وجهة نظري على خلفية ذلك البحث الذي كان بعنوان quot;نظرية الفائض الاقتصادي الاحتمالي عند بول بارانquot; مع دراسة تطبيقية عن سوريا خلال الفترة 1945 ـ 1985 والسياسة اللاعقلانية التي أدت إلى تبديد الفائض الاقتصادي السوري، ومنعه ـ رغم إمكانياته المبرهنة رياضيا ـ من إنجاز ثورة صناعية ـ زراعية حقيقية كانت قادرة على وضع سوريا بمصاف إسبانيا عند نهاية عهد فرانكو(*). وهو بحث أعجب به سمير أمين حين اطلع عليه بعد سنوات، وبشكل خاص الطريقة الرياضية التي استنبطتها لاحتساب الفائض الاقتصادي المبدد، والطريقة الأخرى المكملة لها حول إمكانية معرفة الفساد quot; الشرعيquot; بالأرقام من خلال السجلات المالية الرسمية للدولة وسجلات الصادرات والواردات، وهي طريقة لا تحتمل الارتياب أو الانحراف المعياري إلا بنسبة (+/ - 3 بالمئة). ذلك فضلا عن الحساب الرياضي للخسائر الفلكية التي تنجم عن التبادل اللامتكافئ مع السوق الدولية، والتي يقف وراءها بالدرجة الأولى الحفاظ شبه الدائم على أجور الأيدي العاملة التي يتحول وضعها باضطراد إلى شكل من أشكال العبودية والقنانة الإنكشارية السافرة التي تخدم طبقة من المجرمين الحقيقيين، بالمعنى الجنائي الدقيق للكلمة، في قطاع الدولة (العام) المدني والعسكري، لا يتجاوز عددها خمسة آلاف فرد (3 بالمئة من السكان) وتستحوذ على قرابة 50 بالمئة من الناتج المحلي الصافي إذا ما احتسبنا ذلك بطريقة quot;منحنيات لورنزquot; المعروفة (1)!

بعد أن أنهى داراغون حديثه، وبعد ثنائي كمواطن سوري على النوايا الطيبة التي تدفع بلاده للقيام بتلك المساعدة(!)، أكدت له أن هذا العمل نوع من العبث الذي لا طائل منه، وهدر للوقت وأموال دافع الضرائب الفرنسي، فضلا عن أنه ينطوي على سلوك تضليلي خطير. ووجه التضليل فيه أنه يولد إحساسا عاما لدى الناس بأن الرئيس الجديد quot; إصلاحيquot; فعلا، ويزين للناس أملا وهميا كاذبا بإمكانية الانتقال من دولة استبدادية أولغارشية مؤهلة لأن تصبح فاشية في أي لحظة، إلى دولة ديمقراطية حديثة ولو من الطراز الديغولي الذي أدى إلى الانتفاضة الطلابية في العام 1968! وأوردت عددا من الأسباب الموجبة التي أهمها أن جهاز الإدارة والمالية وجهاز الدولة كله في سوريا، وإن يكن الهيكل الأساسي فرنسيا، لا تشبه نظائرها في فرنسا، ولا في أي بلد آخر، سواء أكان من النموذج السوفييتي (كما ظن أحد المثقفين السوريين الهراطقة الذين علّقوا أمالهم على بشار الأسد، حين كتب قبل عامين مقترحا quot; علاجا صينيا لمشكلة سوفييتية quot;!)، أو من النموذج الغربي (الأوربي أو الأميركي). وبالتالي لايمكن علاج مشاكل وأمراض هذا الجهاز بأدوات غربية أو صينية. والأمر، في هذه الحال، لا يعدو أن يكون إعطاء رجل مصاب بسرطان الرئة مضادا حيويا quot; رباعي الطيفquot; مخصصا لعلاج التدرن الرئوي! وأكدت له أن سوريا لا تعاني أبدا من مشاكل في الإدارة أو الإقتصاد، ومشاكلها في هذا المجال ليست في الواقع إلا أعراضا لمرض آخر، وليست المرض نفسه. والخلط الدائم، سواء من قبل الخبراء والسياسيين المحليين و الأجانب، بين المرض وأعراضه، هو الذي قاد إلى كل تلك الهذيانات السياسية والاقتصادية التي سمعناها بشأن برامج بشار الأسد quot; الإصلاحية quot;، وهو الذي أدى في المحصلة (الآن) إلى هدر ست سنوات في ممارسة ألعاب نظرية بهلوانية كان من أبرز مفارقاتها الختامية أن ذلك المثقف الهرطوقي،الذي اقترح علاجا من طراز صيني لمشاكلنا quot; ذات الطرازالسوفييتي quot;، أصبح بعد حملة الاعتقالات الأخيرة، وبعد ست سنوات من خداعه الناس والترويج لبشار الأسد (على الطريقة الشيراكية تماما!)، سجينا ورا قضبان من طراز.. مملوكي!
في السياق سألت السفير داراغون: هل درس خبراؤكم، سواء في معهد الإدارة أو في الجامعات الأخرى، ظاهرة الـ Ramization (أو Ramisation بالفرنسية)، وهل يوجد في أيما جامعة فرنسية quot;كورساتquot; دراسية حول هذه الظاهرة؟
أسقط في يد الرجل، ونظر إلي مدهوشا لأنه لم يسبق له أن سمع بتعبير من هذا النوع في أي من اللغات التي يعرفها. وهو معذور في ذلك. لكنه ما لبث أن استوعب الأمر بسهولة حين شرحته له معتمدا على ما اختزنه من معايشته الحالة السورية على مدى خمس سنوات ونيف.
ظاهرة الـ Ramization، أو quot;الرمرمةquot; التي اشتقيت لها هذا المصطلح من اسم quot;رامي مخلوفquot;، ابن خال بشار الأسد، جديرة بأن تدرس في كليات الإدارة والإقتصاد بوصفها quot;الطريقة السوريةquot;، أو التجلي السوري، لما درسناه في كليات الإقتصاد بداية الثمانينات عن الخصخصة Privatization (بيع مؤسسات القطاع العام إلى القطاع الخاص) التي كانت قد بدأت تتحول إلى ظاهرة كونية مع صعود اليمين الريغاني ـ التاتشري.

رغم الدمار الكامل الذي حاق بقطاع الدولة في سوريا بسبب الفساد وطرق النهب التي يعصى على الخيال تصورها ، بحيث أنه لا توجد فيه شركة واحدة رابحة (بما في ذلك الشركات التي تبيع المياه المعدنية!)، لم يفكر النظام ببيع هذا القطاع أو حتى تحويله إلى شركات مساهمة. كما أنه لم يجر أي مفاوضات مع صندوق النقد الدولي لتطبيق الـ quot;روشيتةquot; التقليدية المعروفة، روشيتة التجويع كما ينبغي أن تسمى فعلا. ومن غير الممكن أن يفكر بذلك في المسقبل المنظور. ذلك لأن هذا القطاع، خصوصا بعد نضوب ضرع quot;البقرة اللبنانيةquot; الذي كان يؤمن للمافيا السورية الحاكمة قرابة 3 مليارات دولار سنويا،أصبح المصدر شبه الوحيد للدخل الشرعي وغير الشرعي الذي تحصل عليه هذا المافيا. ولعل هذا هو السبب، وليس أي سبب أيديولوجي آخر، ما دفع بشار الأسد قبل بضعة أيام للتأكيد في لقائه مع إعلاميي نظامه على رفضه المطلق خصخصة هذا القطاع الذي يشغّل قرابة مليون ونصف المليون ما بين مدني وعسكري، يعيش على دخولهم أكثر من ثلث السكان.
مقابل ذلك، وبدلا منه، أي: مقابل رفض الخصخصة والدخول في مفاوضات لتطبيق علاجات صندوق النقد، لجأ النظام إلى سياسة quot; التجويف من حول المسمار quot; كي يسقط quot; قطاع الدولةquot; وحده دون الاضطرار إلى اقتلاعه بطريقة قسرية، لكن.. في الوقت الذي يناسبه؛ أي بعد أن يكون قد انتهى من تكوين الطبقة التي تتولى قيادة البلاد بشكل سافر،عبر انتخابات quot;ديمقراطيةquot;، بدلا من توليها بشكل مستتر (من تحت قناع قطاع الدولة) كما يحصل الآن من خلال quot;الحزب الواحدquot;. وتقوم سياسة quot;التجويف من حول المسمارquot; على عدد من الطرق والأساليب الشيطانية التي لم تخطر حتى على بال أكثر خبراء صندوق الدولي إجراما. ذلك من قبيل:
ـ وقف تجديد أصول الرساميل الهالكة لشركات قطاع الدولة (الإنتاجية والخدمية) التي يعود معظمها إلى ثلاثين أو أربعين عاما. بحيث باتت هناك ظاهرة غير موجودة في أي بلد آخر، وهي ظاهرة quot;الموازنات المدوّرة quot; من عام إلى آخر بسبب عدم استثمارها في تجديد تلك الأصول أو توسيعها. وهذا ما أدى بدوره إلى مفارقة مذهلة أخرى: وجود مئات مليارات الليرات في صناديق الدولة، في الوقت الذي يعاني فيه الناس من المجاعة والتشرد والبطالة، ويعاني فيه الاستثمار الإنتاجي من نقص السيولة! وثمة شركات لم يقبض عمالها أجورهم منذ أكثر من عام!
ـ تأجير ممتلكات عامة (عقارات وأراض زراعية) لأبناء مسؤولين لمدة 99 عاما، وفي أحيان كثيرة منحهم إياها بموجب صكوك ملكية quot;قانونيةquot; (حق الرقبة). وبفضل هذه الطريقة ذهبت عشرات الألوف من الهيكتارات الزراعية المملوكة للدولة (أو المصادرة بموجب قوانين الإصلاح الزراعي في الستينيات) في الساحل السوري ومنطقة quot;الغابquot; (الحوض الشمالي لنهر العاصي) ووادي نهر بردى غربي دمشق، وسهول quot;الجزيرةquot; (شمال شرق سورية)، وسهول حوران (جنوب سوريا) وحوض نهر الفرات... إلى ضباط الجيش والمخابرات وأبنائهم، وفي أحيان ليست قليلة إلى المسؤولين المدنيين في حزب السلطة. وهي ظاهرة شبيهة تماما بما قام به الباب العالي العثماني مع ضباط الجيوش الإنكشارية في الولايات العثمانية في إطار ما عرف بإقطاع الإلتزام Usufructuary Feudalism .
ـ تشريع تبييض الأموال تحت مسمى quot;قوانين الاستثمارquot;. وفي هذا المجال صدر القانون رقم 10 للعام 1991 وتعديلاته في العام 2000. والثابت لدي من البحث الميداني الذي قمت به أن هذا القانون صدر بضغط من بعض ضباط الجيش والمخابرات، وعدد من مسؤولي الحزب والدولة المدنيين، من أجل تبييض الأموال التي حصلوا عليها بطرق غير مشروعة من نهب قطاع الدولة ولبنان و الاتجار بالمخدرات والسلاح. وكان ثمة دافع آخر لذلك هو استمرار ثبات أسعار الفائدة على الودائع طويلة الأجل، بل وتقهقرها، في البنوك الأوربية اعتبارا من أواسط الثمانينيات. وفي الدراسة الميدانية التي قمت بها في العام 2002، بالاعتماد على معطيات quot;مكتب الاستثمارquot; في مجلس الوزراء السوري، والجهات الأخرى المعنية بتسجيل المشاريع المرخصة استنادا إلى القانون المذكور، أو قوانين أخرى، تبين أن أكثر من 52 بالمئة من رؤوس أموال المشاريع التي جرى ترخيصها (ومعظمها في قطاع الخدمات) تعود ملكيتها إلى 13 شخصا فقط أبرزهم: رامي مخلوف؛ آصف شوكت (من خلال شقيقه ـ ضابط الجمارك المتقاعد)؛ العماد علي دوبا رئيس شعبة المخابرات العسكرية (التي تقنعت مشاريعه بقناع مجمع شركات أوغاريت وشريكه رجل الأعمال علي اسماعيل)؛ العماد توفيق جلول قائد الفرقة 11 ورئيس مكتب تفتيش الجيش سابقا وشقيقه اللواء محمد مدير إدارة الاستطلاع الجوي (من خلال شركات مسجلة بأسماء أشقائهما غير الموظفين)؛ عبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية سابقا (من خلال شركات مسجلة بأسماء أبنائه)؛ اللواء عز الدين اسماعيل مدير إدارة المخابرات الجوية سابقا (اسثمارات في مجال شركات النقل)؛ رستم غزالي (عقارات ومحطات وقود بأسماء أشقائه)؛ العميد جلال أحمد الحايك (عبر أشقائه وشركائه المحامين، مثل عمران الزعبي، في مجال المطاعم والملاهي بريف دمشق)؛ فراس مصطفى طلاس الذي يمتلك quot; مجموعة MASquot; الضخمة، والذي استغل وجود والده في منصب نائب القائد العام للجيش وزير الدفاع لتوريد مواد غذائية للوحدات العسكرية معظمها كان فاسدا (أنا أحد المعتقلين الذين تناولوا من هذه المواد مرتديللا فاسدة في سجن المزة من تصنيع هذه المجموعة، جرى توريدها نهاية التسعينيات، وكادت أن تودي بحياة العشرات من المعتقلين الذين لم يود بهم التعذيب!). وبالنظر لأن قوانين خدمة الموظفين العامّين، المدنيين والعسكريين، لا تسمح لهؤلاء ممارسة أعمال تجارية خاصة، فقد عمدوا إلى تسجيل استثماراتهم بأسماء أفراد أسرهم أو أقربائهم، وفي حالات كثيرة من خلال الشراكة مع رجال أعمال موجودين في السوق منذ سنوات طويلة. وهذا ما أسميته بـتحالف quot;رأس المال العسكريquot; مع quot;رأس المال التجاري quot; من خلال آليات السوق. وتدخل في هذه الآلية quot; التوحيدية quot;، بين هذين quot;النوعينquot; من الرساميل، النسب المئوية التي يحصل عليها رجال الدولة المتنفذون (المدنيون والعسكريون) مقابل تسهيل عمليات الإستيراد والتصدير التي يقوم بها رموز البورجوازية التجارية التقليدية. وغني عن البيان أن الاستثمارات المشار إليها لا تتضمن، بطبيعة الحال، جميع أموال هؤلاء. فقد أبقوا على قسم من أموالهم في البنوك اللبنانية (جرى نقل قسم كبيرمن هذه الأخيرة إلى بنوك حزب أردوغان في تركيا بعد اغتيال الحريري) وبعض البنوك الأوربية، لاسيما الفرنسية منها. وبحسب ما أفادني به أحد موظفي بنك Socieacute;teacute; Geacute;neacute;rale، فإن البنوك الفرنسية لا تزال تكتنز حوالي أربعين مليار دولار لمسؤولين سوريين معظمهم لا يزال على رأس عمله . وما لا يقل خطورة عن ذلك، أن معظم هذه المشاريع كان وهميا، وبقي على الورق، أو لم يستمر إلا لبضع سنوات توازي سنوات الإعفاء من الضرائب التي منحهم إياها القانون وتعديلاته. والقلة القليلة جدا من هذه المشاريع لا تزال مستمرة حتى الآن. وهذا ما يفسر حقيقة أن جميع مليارات الدولارات المستثمرة منذ صدور القانون لم تشغل إلا بضع عشرات الألوف من الأيدي العاملة، باعتراف السلطة نفسها، في الوقت الذي نعرف فيه، كاقتصاديين، أن تأمين فرصة عمل واحدة في بلد مثل سورية يقتضي استثمار مبلغ يتراوح ما بين 18 ـ 23 ألف دولار فقط ، وهي من أقل معدلات كلفة فرصة العمل الواحدة في العالم!

ـ من بين كل مكونات ظاهرة الـ Ramization تبقى ممارسات رامي مخلوف، شخصيا، هي الأخطر. فالرجل، وطبقا لآخر إحصاء قمت به (وهو غير كامل بطبيعة الحال) يضع يده على أكثر من 300 وكالة أجنبية، ناهيكم عن الشركات الكبرى المعروفة التي يملكها بمفرده أو بالاشتراك مع ضباط المخابرات مثل بهجت سليمان كما في حال شركة الهاتف الخليوي quot;سيرياتلquot;، أو مع ابن هذا الأخير، مجد، كما هي الحال في شركات الإعلان التي يملكها. (وصل نفوذ هذه العصابة مؤخرا حتى إلى قطاع الإعلام في لبنان، لا سيما صحيفة صدى البلد اليومية وفق ما أفادني به أحد صحفيي الجريدة المذكورة). وجميع هذه الوكالات تقريبا سطا عليها إما من خلال استخدام quot;رأس المال الأمنيquot; بهدف انتزاع قرارات قضائية quot;، كما حصل مع رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس الذي شلّحه رامي مخلوف حصته في quot;سيرياتلquot; بقوة quot;القانونquot; الاحتيالي، أو عبر البلطجة السافرة كما حصل مع أبناء عمر سنقر الذين يملكون وكالة مرسيدس منذ ستينيات القرن الماضي، عندما حاول أخذ الوكالة منهم بالقوة. وحين فشل بسبب وقوف الحكومة الألمانية وراء شركتها التي تكاد أن تكون أحد quot;الرموز السياديةquot; للدولة، منع استيراد المرسيدس إلى سورية عدة سنوات، بموجب قرارات صادرة عن جهات رسمية تشتغل في إطار العصابة نفسها. وقد هدف من وراء ضغوطه إجبار الشركة الألمانية على سحب الوكالة من أبناء عمر سنقر ومنحها له. إلا أن الموقف الحازم الذي أخذته الحكومة الألمانية دعما لشركتها حال دون ذلك في النهاية. ولرامي مخلوف، كما أخبرني أحد رجال الأعمال السوريين من ضحاياه، quot;آليةquot; إجرامية أخرى في وضع اليد على الوكالات يقوم بها جهاز quot;مسحي ـ استخباريquot; يعمل بأمرته مباشرة. حيث يصار إلى مراقبة الوكالات التجارية الأجنبية الجديدة التي يحصل عليها رجال أعمال سوريون من بلدانها الاصلية. وحين يكتشف أنها رابحة وناجحة يطرح على أصحابها واحدا من خيارين لا ثالث لهما: إما المشاركة في ملكية شركاتهم بنسبة النصف، أو ما يزيد على ذلك، دون أن يساهم بفلس واحد في رأس المال، وإما سحب الوكالة من بين أيديهم بقوة البلطجة السافرة أو بـقوة quot;القانونquot; عبر طرق مافيوية ملتوية عمادها جهاز قضائي مكون من قضاة مجرمين عديمي الضمير أشبه بقطاع الطرق، يعملون مع الأجهزة الأمنية، وقضاة جبناء فاقدي الإحساس بالمسؤولية.

في واقع الحال، وبعيدا عن كل مظاهر الحرب الإعلامية والديبلوماسية الديماغوجية التي يشنها الديغوليون الفرنسيون ضد النظام السوري منذ التمديد القسري للرئيس اللبناني إميل لحود، لايزال هؤلاء أحد الحماة الأساسيين ليس للنظام السوري فقط، بل ولظاهرة الـ Ramization بالذات. وتكشف الاتصالات السرية التي لم تنقطع لحظة واحدة (الزيارات الرسمية شبه المنتظمة التي يقوم بها رئيس المخابرات العسكرية آصف شوكت لفرنسا، رغم أنه على رأس المشتبه بهم في اغتيال الحريري!؟) عن أن آخر ما كان يهم الديغوليين الفرنسيين هو قضية الإصلاح في سوريا. وحدود quot; الإصلاح quot; الذي يعنيهم تقف عند الجوانب التقنية التي لا تمس جوهر النظام السياسي السوري، وتسمح في الآن نفسه للرساميل الفرنسية المطرودة والمطاردة أميركيا، حتى في عقر دارها ومنه، ولوكلائها المحليين من أعضاء عصابة الـ Ramization في السوق السورية، باقتناص ثروات الشعب السوري التي راكمها على مدار عقود من كفاحه وشقائه. وليس أدل على ذلك، فضلا عن الاتصالات الاستخبارية المشار إليها، من أن البنوك الفرنسية لا تزال المكان المفضل الذي تتدفق إليه المنهوبات والأموال التي جرى ويجري تبييضها عبر قنوات الـ Ramization داخل سوريا وخارجها. بل إن جميع الاتصالات السياسية التي يقوم بها تيار الرئيس جاك شيراك وجماعته فيما يخص الشأن السوري إنما تجري مع ممثلي الظاهرة المذكورة، ومنهم رامي مخلوف والزمر المافيوية والأمنية المرتبطة به والتي تتخذ لنفسها اسما quot;حركياquot; هو quot;رجال أعمالquot;. ذلك في الوقت الذي تجنبوا فيه القيام بأي اتصال أو حوار ذي شأن مع ممثلي القوى الديمقراطية السورية الحقيقية! بل أكثر من ذلك؛ فرغم أن كاتب هذه السطور عديم القوة والحيلة، ولايمكن أن يشكل أي خطر مهما كان متواضعا على المصالح الفرنسية في سوريا، فإن السلطات الفرنسية لم تتورع عن استدعائه إلى مقر مخابرات الـ DST لإبلاغه بشكل رسمي، ولمرتين متتاليتين خلال أشهر قليلة، ضرورة الالتزام بشروط اللجوء السياسي، وتحذيره من مغبة ممارسة أي نشاط إعلامي أو سياسي انطلاقا من الأراضي الفرنسية. وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية بتهمة quot;الإساءة لمصالح الدولة الفرنسية العليا وخرق قانون اللجوءquot;!
لم أكن أنا أو أي يساري ديمقراطي حقيقي في سوريا، أو لبنان، نعول في أي يوم من الأيام على من سحق طلبة جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار في شوارع باريس بالمصفحات والدبابات، في أن يساعدنا على صناعة الديمقراطية في سوريا ولبنان. ولكننا كنا ننتظر دائما ممن يعتبر نفسه وريثا لثقافة الأنوار، أن لا يحترف هذا الشكل quot;البعثيquot; الوضيع من النفاق الأنكلوسكسوني، لا الفرانكوفوني (!)، حين يمارس سياسة صغيرة تافهة تنزل به إلى حضيض المناكدة الشخصية فيمنع إيميل لحود من حضور القمة الفرانكوفونية، لمجرد أنه ممدد له (دستوريا في الواقع وبأصوات الحريري نفسه، مهما قيل)، في الوقت الذي لايكتفي فيه بجعل quot; الإليزيه quot; محجا لجميع أشكال وألوان القتلة والمجرمين وزعماء المافيات الشرق أوسطية، بل ويمدد لكل عسكر أفريقيا، ليس لثلاث سنوات ، بل ليكونوا رؤساء مدى الحياة في جمهوريات الـ Ramization وجبنة الروكفور والبقرة الضاحكة ـ الشقيقات التوائم لجمهوريات الموز.. إياها!
بروكسل ـ 22 حزيران / يونيو 2006

هوامش:
(*)- Nizar Nayouf: Paul Baranrsquo;s Theory on Economic Plus Potential, Syria 1945-1985: The Irrational Making-use of the Economic Surplus Potential and its Role in Dissipating Extensive Accumulation.
(1)-
http://www.duncanwil.co.uk/lorenz1.html
(2)- Nizar Nayouf: Who does Hold and Rule Syria? A study on the Sociology of the Capitals invested in the 1990s, Asian Studies, Vol.4, issue 10, 1991.