الحصار الذي تتعرض له الحكومة الفلسطينية منذ تشكيلها، قبل ستة شهور، هو حصار غاية في التعقيد والظلم والفداحة. حصار لم تعرفه الحكومات الفلسطينية التسع من قبل. حصار مَن ينوي لكَ الموت والفناء لا أقل. ولا يهمّه أبداً أن تجأر بالشكوى، أو أن تدين وتستنكر. فهو حصار واضح محدد لا لبس فيه: أهدافه ونواياه واضحة وضوح الشمس في يوم صيف. إسرائيل، والعالم من ورائها، لا تريد لهذه الحكومة التي شكّلتها حركة حماس، أن تستمر يوماً آخر، بل تريد أن تنهيها سياسياً، اليوم قبل غداً، والبارحة قبل اليوم لو أمكن. كل هذا يعرفه الطفل الفلسطيني قبل الراشد، ويعرفه المواطن العادي قبل رجل السياسة. ولتحقيق هذه الأهداف المعلنة، لم توفر إسرائيل، بقيادة إيهود أولمرت، وسيلةً ولا طريقة، لتركيع هذه الحكومة، وتركيع كل الشعب الفلسطيني من ورائها وأمامها. فنحن جميعاً، كل تنظيماتنا وكل فئاتنا وكل طيفنا السياسي، مطلوب تركعينا، وتطويعنا، لكي نمشي حسب الأجندة الإسرائيلية، ونكون رهن إشارة واضعيها هناك في القدس الغربية. هذا هو الحال باختصار، وهذه هي حقيقة المشهد السياسي، ومَن لا يعجبه، فليشربْ البحر. فليشربْ البحر - يقولها لنا هذه المرة أولمرت وبيرتس، بعد أن قلناها نحن عدة مرات، على لسان الرئيس الراحل أبو عمار. لكن الفرق بين القوليْن، أنّ أولمرت وبيرتس ينفّذانما يقولان، بينما نحن لا نتعدّى القول إلى الفعل وأنّى لنا ذلك، ونحن الطرف الأضعف في المعادلة السياسية الجائرة؟

أولمرت قطع الكهرباء عن كامل قطاع غزة. عن منطقة مأهولة بأكثر من مليون ونصف المليون من البشر العزّل المدنيين. منطقة هي محض حزام فقر كبير. قطعَ الكهرباء عنها، منذ شهور، ولا توجد نية لديه، حتى لحظة كتابة هذا المقال، في تصحيح خطيئته هذه، بل بالأحرى جريمته، كأن يسمح للسلطة الفلسطينية بشراء الكهرباء من الجارة مصر، وبمدّ خطوط من مدينة العريش القريبة إلى هنا، كي تنتهي هذه القصة المرعبة: قصة تحويل مكان هو الأعلى كثافة سكانية في أربعة أقطار الدنيا، إلى ساحة أشباح. بعد ساعات قليلة يبدأ العام الدراسي الجديد. فكيف سيقرأ الطلبة، وكيف سيحلّون واجباتهم المدرسية، على لمبات الكاز نمرة 2 ونمرة 4؟ سؤال عجيب غريب، لا يصحّ أن يُسأل ونحن نزعم أننا نعيش في الألف الثالث بعد الميلاد. سؤال مرعب، هو عار فوق جبين هذه الدولة العصرية الأكثر حداثة بين دول الشرق الأوسط. فلكل شيء حدود، حتى في الحروب. ولا يصح أبداً التنكيل بشعب ومعاقبته على هذا النحو الهمجي، المجرّد من أية قيمة إنسانية، والذي أعاد عقارب الساعة، خمسين سنة إلى الوراء.

إنه عام دراسي مكفهر منذ بدايته، بل قبل أن يبدأ. فمن جانب، ثمة إضرابات المعلّمين الذين لم يتقاضوا رواتبهم منذ شهور ستة، ومن جانب آخر، ثمة العتمة وقَرْص المعدة، وثمة التوهان، على وجوه الآباء، بل ثمة الخجل من النظر إلى عيون أولادهم، فالآباء عاجزون، ما بيدهم حيلة، ولا في جيوبهم سوى الفراغ. ومهما كان الأولاد يفهمون ويتفهمون، إلا أنّ الفقر المدقع حد انتشار الروائح الكريهة للأفواه، وكأننا منذ ستة شهور في شهر رمضان، هو أكبر قاتل للكرامة الآدمية. فما أبأس شعور الأب حين يعجز عن تحقيق المتطلّبات البدائية لأولاده.

لقد نسيَ الناسُ في بلادي، طعمَ لحوم الحيوانات والطيور والأسماك، وكانوا قبل ذلك يتندّرون على إخوتهم المصريين الذين يتكلّمون عن اللحوم باستمرار في أفلامهم ومسلسلاتهم التلفزيونية، ونسوا من قبلها، كل الكماليات والكثير جداً من الضرورات، حتى باتوا، أو بات البعض منهم، يسرق الطحين من بيت جاره! إنها شهور الرمادة، التي تذكّرنا بمثيلتها أيام عمر بن الخطاب. عمر الذي ألغى إقامة الحدود على السارق في تلك الحقبة. واليوم، نسمع، لا فقط على من سرق الطحين من جاره، وإنما على من باعت ثدييها، مقابل توفير وجبة طعام لأولادها. فإلى متى يستمر هذا الحال الفجائعي الكارثي؟ إنه سؤال، كما يعلم الجميع، سياسي لا إنساني ولا اجتماعي ولا شيء من هذا القبيل. فالسياسة في بلاد كبلادنا، هي وراء كل تفاصيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية. صحن الفول، وجبة الفقراء التي صارت عزيزة الآن، يرتفع ثمنه وتقل محتوياته، فإن سألتَ لمَ، قيل لك: إسرائيل أغلقت المعابر، فخضع حتى صحن الفول لقانون السوق الأبدي: العرض والطلب! وما ينطبق على صحن الفول، ينطبق على كل السلع الضرورية الأخرى، من الخبز والخُضار والحبوب وصولاً إلى علبة السجائر. بل إن بعض السلع تضاعف سعرها عدة مرات في غضون أسابيع. ولأول مرة، منذ أن دخلت الثلاجات إلى بيوت الفلسطينيين، تفرغ هذه من محتوياتها، بل لقد أقدم غالبية السكان، على عدم تشغيلها من الأصل، ففضلاً عن انقطاع التيار الكهربائي معظم الوقت، فإن المال قد جفّ من أيدي الناس، فباتوا عاجزين عن شراء أي شيء مما يُوضع في الثلاجات. لا لحوم ولا مشتقات ألبان، وأقصى ما هنالك، أن يوضع الخبز والماء، وبعض البندورة والفلفل. هذا هو حالنا، وكل يوم يمرّ نزداد فقراً على فقر، فماذا ننتظر؟ إنه العقاب الجماعي، الذي يطال الجميع، إلا فئة قليلة من العاملين في وكالة الغوث، وبعض التجار، أما الغالبية العظمى من الشعب، فقد فقدت كل ما كانت تتمتع به من امتيازات [ هل يصحّ أن نسمّيها كذلك! ] نعم يصحّ، فالأمور نسبية، وما أقصده، هو امتياز أن تكون كمواطن مستوراً فلا تحتاج لمذلّة سؤال الآخرين!
فإلى متى ننتظر؟ وإلى متى نعوّل على نجدة نعرف أنها لا تأتي ولن تأتي من الخارج. إنه سؤال سياسي لا إنساني ولا اجتماعي ولا اقتصادي، سؤال بحاجة إلى جواب سياسي أولاً وأخيراً. فالكل يعلم، أن الحصار المفروض علينا، هو حصار سياسي بامتياز. فكل شيء في بلادنا مربوط بالسياسة، من صحن الفول أعلاه إلى شربة الماء و حتى سمكة الصيد. أما لعبة التعويل على صبر الناس وتحمّلهم إلى ما لا نهاية، فهي لعبة غير مجدية، لأن الناس في بلادنا، من سوء حظ الطبيعة البشرية أولاً، ومن سوء حظ هذه الحكومة وكل حكومة ثانياً، هم بشر كالبشر: بشر لهم مطاليبهم الأساسية، كي ينموا وكي يحافظوا على صحتهم البيولوجية وسَوائهم الفيزيائي، وإن تحمّلوا وصمدوا اليوم، فلن يتحمّلوا ويصمدوا غداً، فللصمود أدوات ومقومات، يجب توفيرها في البداية، ثم بعد ذلك نتكلّم عن واجب وضرورة أن يصمد الناس. إنّ على حكومتنا الراهنة، أن تلتفت لهذه البديهيات التي هي ألف باء الاجتماع البشري، وألف باء علم السياسة، قبل خراب البصرة، ونحن نعرف عن قرب، أن ثمة في حماس تياريْن: واحد معتدل، وهو الذي في الداخل عموماً، وآخر لا يملك هذه الصفة، وهو تيار رئيس المكتب السياسي للحركة، الموجود في دمشق. وأظنّ أنّ على حماس، ولمصلحتها كحركة ولمصلحة مستقبلها السياسي، أن لا تماطل وأن تحسم أمرها لصالح التيار المعتدل نوعاً، فهذا التيار، يعرف بحكم وجوده على الأرض، بيننا، مقدارَ وحجم التحديات الخطيرة جداً، التي يواجهها شعبنا كله، ويعرف أنها تحديات مصيرية تنوء بحملها الجبال، ولا يستطيع فصيل سياسي فلسطيني، مهما كان حجمه في الشارع، ومهما كانت قدراته، أن يقود السفينة لوحده. فالشعب الفلسطيني برمته، لم يكن في يوم من الأيام، بحاجة للتوّحد والاصطفاف، والتعامل مع مفاعيل السياسة الإسرائيلية والدولية، كما هو اليوم، وفي هذه المرحلة الدقيقة والحساسة، بل فائقة الدقة والتعقيد والحساسية، من تاريخه وتاريخ المنطقة. نعرف أن المعاناة طالت الجميع، بما فيهم حتى المسئولين الكبار من حماس. لكن هذا لا يغيّر من المعادلة ونتائجها في شيء، فالشعب الفلسطيني كله يواجه مشكلة كبرى، هي مشكلة الحصار الظالم، ولذا لا بد من حل سياسي لهذه المشكلة. حل سياسي إما بتشكيل حكومة وحدة وطنية تأخذ على عاتقها مهمة أولى هي رفع الحصار عن كاهل الشعب، وإما كما قلنا في مقال سابق، بأن يذهب الجميع إلى حكومة إنقاذ وطني، تتشكّل من خارج التنظيمات، وتأخذ على عاتقها أيضاً أولوية رفع الحصار كمهمة عاجلة وأولى. وما من حلول أخرى. فجميعنا في القفص، وجميعنا تحت السكين، وجميعنا حائرون تائهون. خصوصاً بعد أن سُدّت أمامنا معظم الأبواب والنوافذ، وبعد أن طال صمتُ العالم تجاه ما نقاسي ونعاني، حتى وصل إلى حدود اللامبالاة، بما فيه العالم العربي العاجز الضعيف. لقد قلنا منذ الأيام الأولى لتشكيل هذه الحكومة، ومنذ أخذَنا الوهمُ بالاعتماد على محيطنا العربي والإسلامي، بأن ذلك مجرد وهم، سرعان ما تكشفه الحقائق والوقائع على الأرض. وها نحن ذا، للأسف، نرى أنّ ما كان حماساً وأملاً لدى بعضنا، تمخض عن وهم. فالعرب والمسلمون أعجز من أن يكسروا حصارنا، وأوهى حتى من أن يتوسّلوا شيئاً من أمريكا وإسرائيل. لنشكو كما شاءت لنا الشكوى، من ظلم وجبروت بل طاغوت إسرائيل، فهذا تحصيل حاصل، ومعروف للقاصي والداني، وهو حديثنا لأنفسنا، داخل غرفنا، ولن يسمعه أحد في الخارج، فالخارج يسمع ما يريده فقط، وما يتوافق مع مصالحه وخططه الاستراتيجية والتكتيكية فقط، أي الخارجُ فاعلٌ سياسي، له لغة سياسية محددة، وله أجندة وله مصالح، وليس من المعقول ولا من المنطقي ولا من البديهي، أن يكون لحكومتنا العاشرة هذه، مشروع إسلامي، وفي ذات الوقت، تطلب من العالم الغربي النقيض والمضاد لها، أن يصرف على مشروعها. إن العدل شيء، والواقع الظالم شيء آخر. وإسرائيل ظالمة وهذا هو عهدنا بها منذ أُنشئت، وعلينا أن نتكلّم لغةً سياسية يفهمها العالم، وإلا فسنظل أسرى هذا الظلم التاريخي إلى ما لا نهاية. وفي اعتقادي أن لا أحد منا كفلسطينيين، يريد لشعبه هذا الخيار. لذا، إن كان من حقنا أن نشكو، فلنشكو في حدود، وبلغة يفهمها من تتوجه إليه هذه الشكوى العادلة، وإلا فشكوانا، مثلما فعلنا في السابق، لن يكون مآلها إلا في مهب الريح، وما أدراكم ما مهب الريح!