رغم مرور ربع قرن و نيف بالتمام والكمال (26) عاما كاملات، لا يمكن للذاكرة الفردية أو حتى الجماعية أن تنسى أحداث ظهيرة ذلك اليوم الخريفي المشمس الذي صبغ التاريخ العراقي والعربي بلونه القاتم، وبدل معادلات وأطاح بثوابت ومزق وطن كان من المؤمل أن يختط طريقا آخر غير الذي إختطه له قادة البعث المهزوم وأوغلوا فيه بعيدا حتى أوردوه موارد الردى والهلاك والضياع، ففي الساعة الثانية من بعد ظهر يوم الإثنين الموافق 22/ 9/ 1980 مزق سكون السماء العراقية هدير الطائرات العسكرية العراقية (الميغ والسوخوي) ودوي مدافع الميدان الثقيلة التي كانت متجهة وموجهة شرقا صوب الجار الإيراني لتبدأ أولى فصول تلك المغامرة الدموية المروعة وعلى الطريقة الهتلرية في الحرب الخاطفة وتأسيا على ما يبدو بالأسلوب الحربي الهجومي الإسرائيلي في توجيه الضربة المفاجئة الأولى وتكسيح العدو وشل أعصابه ومراكزه القيادية!! وهو الأمر الذي لم تتقنه القيادة العسكرية العراقية البائدة في الجيش العراقي المنحل الذي هيمن على مقدراته زمرة من الجهلة والأميين والمتخلفين والرعاع وسقط متاع المجتمع العراقي ليتحول لمجرد عصابة موت و قتل واسعة النطاق ومترهلة وسط دعايات قومية مضللة عن كونه (جيش التحرير العربي)!! و(جيش الوحدة العربية)!! أو جيش (بروسيا العرب)!! الذي سيفرض بل سيحقق الوحدة العربية!! وجميعها كما نعلم دعايات قومية ركيكة ومضللة وسقيمة؟ وهو الذي لم تتعد أدواره التاريخية مهمة حماية النظام وسلخ شعبه وإبادة مكوناته كما حصل مع الشعب الكردي الذي تفنن ذلك الجيش المنحل المسلوب الإرادة في تعذيبه وقتله وسحقه وإستعمال كل الأساليب والأسلحة المحرمة دوليا ضده، وكما حصل لاحقا مع الأشقاء في الكويت الذي لم يخجل (جيش العروبة الهمام) من سلبهم ونهبهم والتعدي على حرماتهم!! وكما فعل نفس الجيش وتحت راية الحرس الجمهوري في سحق الشعب العراقي ذاته بعد الهزيمة المذلة في رمال الكويت فيما عرف حينها بالإنتفاضة الشعبية في مارس/ آذار 1991 وكما سبق أن فعل أيضا ذلك الجيش من أفعال مستهجنة ومستنكرة ضد أشقائنا وأبناء عمومتنا من عرب الأهواز في مدن المحمرة والخفاجية والقرى العربية في عربستان العربية!! تعضيدا ربما لحكاية و نكتة (إن طريق القدس تمر من عبادان)!! وهي نظرية التحرير العبقرية لصاحبها (حزب البعث العربي الإشتراكي) أجلكم الله..! والذي مارس من الهذيان والتآمر والتكسيح ما تعجز عن روايته المجلدات.
صعود الفاشية العراقية على الطريقة النازية!
لقد كانت عوامل وأسباب إندلاع تلك الحرب المجنونة التي سميت لطولها وكلفتها البشرية والمالية المرعبة بــ (الحرب المنسية) كامنة مع التغيير الإنقلابي والفاشي الذي حصل في قمة هرم سلطة الموت البعثية العراقية في صيف 1979 حينما أزيح الرئيس السابق (أحمد حسن البكر) بحركة إنقلابية سريعة كان مخططا لها منذ زمن، وتسلم صدام وعصابته للسلطة الأولى في السادس عشر من تموز/ يوليو 1979 على رقاب قادة التنظيم البعثي ذاته وفي عملية تطهير سريعة وشاملة وإرهابية للجهاز الحزبي البعثي العراقي بقيادتيه القطرية والقومية، ذكرتنا بحملات التطهير الشيوعية أيام (ستالين)، ثم هيمن على العراق شبح فاشي عشائري، ووجوه قيادية إرهابية كالحة متخلفة ومرعبة لا علاقة لها بعالم الحضارة ولا السياسة مارست أبشع أدوار وأطوار الإرهاب الشامل ضد الجماعات والأحزاب السياسية العراقية المخالفة لتوجهات السلطة، و بدأت حمامات الدم تغلي بمراجلها الساخنة في كل العراق محيلة إياه لساحة موت شامل لم يستثن أحدا، و كانت البداية من البعثيين ذاتهم وجثثهم الملقاة في حدائق القصر الجمهوري ومقرات المخابرات العامة، وشمل ضمن ما شمل تغيير للقواعد الإجتماعية والديموغرافية واللجوء لسياسة التطهير الطائفي والعرقي الشامل وحملات الطرد والتهجير وسحب الجنسية وإعتقال الشباب ثم سوقهم للمقابر الجماعية مترافقة مع حديث وخطاب سلطوي محموم ومزيف حول(المعركة القومية الشاملة)!! وحول الزعيم الثوري الجديد الذي ظهر في سماء العروبة ليقود الجموع نحو التحرير الشامل!! وكانت هلوسات بعثية وقومية إختلط فيها الحابل بالنابل!! وتم إختراع العدو الجديد بعيدا عن معزوفة (الصهيونية والإستعمار)!! إنه العدو (الفارسي المجوسي)!! وإن صدام قد جاء ليطفأ نيران المعابد المجوسية وليحقق الوحدة العربية إنطلاقا من (خراسان)!! وكانت مهزلة وملهاة ومأساة في نفس الوقت، وكان واضحا أن تلك الحرب هي من نمط الحروب الفاشلة والسقيمة والتي تدل على بلاهة في التخطيط وغباء في القيادة!، لقد خدمت تلك الحرب التيار المتشدد في الثورة الإيرانية وكانت من الناحية الستراتيجية الصرفة خيرا لإيران!! ألم يقل الخميني الراحل وقتها عبارته الشهيرة بعد أن سمع بنشوب الحرب : (الخير فيما وقع)!!، وفعلا ما هي إلا شهور قليلة حتى تمكنت السلطة الإيرانية المرتبكة من حسم خلافاتها بالقوة مع المعارضة، وفرضت ولاية الفقيه سلطتها الشاملة، ثم تحول الجهد العسكري الإيراني ليوقع خسائرا كبير ورهيبة الجيش العراقي المترهل الذي تصور أن الحرب مجرد خطبة إذاعية أو أغنية تلفزيونية!! وكم كانت ورطة صدام كبيرة وهو يتوسل بعد عام ونصف من الحرب بضرورة إنهائها سلميا بعد أن كان يهدد سابقا ويطرح الشروط ويقول علنا أنه (لا عودة لإتفاق الجزائر لعام 1975)!! وهو الإتفاق الذي تنازل فيه النظام البعثي العراقي البائد لنصف السيادة على شط العرب لصالح إيران!! وهو الأمر الذي لم يفعله النظام الملكي السابق في العراق؟، ثم لتأخذ الحرب أبعادها المأساوية الكبرى منذ هزيمة العراق في الأهواز وبطاح (عربستان) وإنكفاء الجيش العراقي خلف الحدود ليمارس مهمة الدفاع الدموي المكلف إعتبارا من 14/ تموز/ 1982 حينما بدأت معارك شرق البصرة وحتى نهاية الحرب صيف عام 1988!، فكانت أطول حرب إقليمية عانت من آثارها المنطقة وتمدد الإسرائيليون خلالها ليقضوا على الوجود الفلسطيني ومنظمة التحرير في لبنان وليحتلوا أول عاصمة عربية!! بينما كان البعثيون في العراق ينشدون بأن القدس ستتحرر عن طريق عبادان!!، وقد جرت فصول دموية ومحطات سياسية عديدة في تلك الحرب التي لم تكن ضرورية ولا حتمية ولكن التمدد البعثي الفاشي، وعصابات الجريمة المنظمة التي سرقت السلطة في العراق وكواليس التآمر الدولي كانت لها أدوارها المخفية والعلنية في تلك الحرب التي أسست لحروب كثيرة أخرى قادمة! والتي وضعت الأساس النظري والفكري لفكرة تقسيم العراق وتحطيم شعبه!!... لقد أفرزت تلك الحرب التي لم تكن ضرورية و لا حتمية واقعا شعبيا مهلهلا وهزيلا كانت رياح الفاشية فيه تعبث بأقصى قوتها ومدياتها وقد تورمت ذات سلطة الموت حتى أنها لم تأخذ العبرة من تلك الحرب الضروس التي إنتهت نهاية مفاجئة ومفتوحة وبالتعادل الدموي المريع بل إنتشت بأوهام القوة المزيفة لتتحول لإلتهام دولة الكويت هذه المرة وحيث رفع البعثيون شعارهم التاريخي الجديد (طريق القدس تمر من.. الكويت)!! لتكون الفضيحة القومية الكبرى ولتأتي عواصف الصحراء لتقتلع العدوان ولكنها لم تكمل المهمة لتطيح برأس الأفعى البعثية بل تركوه يمارس الإرهاب والتعذيب بحق العراق ودول المنطقة لأكثر من عقد كامل... ولذلك أسرار وملفات لا مجال لذكرها ومناقشتها حاليا... لقد كانت(قادسية صدام) السوداء الرمز الأكبر لعار الفاشية البعثية، وكانت المقدمة الدموية لرحلة الموت العراقية الممتدة فصولا..!. كما كانت المقدمة الموضوعية والبروفة الأساسية لحالة التدمير المنهجية السائدة في العراق الحالي الذي تحرر من سلطة الموت ولكنه لم يتحرر من عقليتها المرعبة.. إنها الحرب الأكثر كلفة في تاريخ العرب الحديث.!
التعليقات