منذ تأسيس المملكة العربية السعودية، والعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية، معدومة أو شبه معدومة بينها وبين موسكو التي كانت سوفيتية.ويعود ذلك لأسباب عدة:
أولها أن الإتحاد السوفييتي- الذي انقضى- دولة شيوعية لا يؤمن بالله ويحاصر الأديان، بخلاف الغرب (الكتابي) الذي سمح بنشاطها على اختلاف ألوانها ومشاربها. والسعودية بلد إسلامي محافظ، خصصت جزءا من مواردها المالية للدعوة الإسلامية، وبناء المساجد في شتى الأقطار، وأكثرها في البلدان الغربية. وتطوير العلاقات مع السوفييت- الشيوعيين لم يكن يلقى دعما شعبيا في السعودية التي يتواجد فيها تيار فاعل من المتشددين الإسلاميين الذين يقيسون الأمور بمقياس ديني إسلامي، ويبنون علاقاتهم مع الآخرين على هذه القاعدة، دون التفريق بين الدين والسياسة، والإدراك أن لكل منهما مجاله.
وثانيها أن العصر كان عصر الأيديولوجيات، والزمن زمن الحرب الباردة، الذي قسّم العالم إلى معسكرين، ولم يفسح في المجال للدول النامية أن تكون بينَ بينْ، بالرغم من وجود منظمة عدم الانحياز التي لم يكن أعضائها يوما غير منحازين، خاصة وأن علاقة السعودية- منذ عشرينات القرن الماضي- بالغرب، متينة وطيبة، وحاجتها إليه أكثر من حاجتها للشرق السوفييتي بكثير، فالغرب أكثر تطورا وتقدما (علميا وصناعيا واقتصاديا) ولغته أكثر شيوعا.
وثالثها أن احتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، وإقامة حكومة شيوعية فيها، قد خلق علاقات عدائية بين البلدين، تزعمت السعودية على إثرها قائمة الدول المساندة لفصائل المقاتلين العرب والأفغان ضد الاحتلال السوفييتي، وأجزلت لهما العطاء.
ليس في السياسة عدو دائم أو صديق دائم، بل سعي دائم لتحقيق المصالح الوطنية. ولهذا كان لا بد للسعودية أثناء التحضير لحرب تحرير الكويت، أن تخطب ود الاتحاد السوفييتي، لفك الارتباط بينه وبين العراق (معاهدة التحالف والصداقة). ومعاقبة النظام العراقي. وهذا ما كان. إذ قام مسؤول سعودي كبير بزيارة لموسكو، استطاع خلالها أن يضمن موافقتها على كل قرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
إن روسيا الاتحادية (وريثة الاتحاد السوفييتي) عضو دائم في مجلس الأمن، قادرة بما لها من حق الاعتراض، عرقلة أي قرار أممي دون إبداء الأسباب. وكدولة عظمى، تضع مصالحها نصب عينيها.
ومع انتهاء الحرب الباردة، وفك ارتباط روسيا بالشيوعية، وعودة الأديان للساحة. واسترداد المسلمين الروس لحريتهم الدينية. فإن السعودية تستطيع أن تتقدم في اتجاه تطوير العلاقات، وتقدم لروسيا الكثير من الفرص، خاصة وأنها دولة نفطية غنية فتية، تتزعم دول الخليج. ومجالات الاستثمار فيها كثيرة، وبحاجة لمزيد من البناء والتنمية، وربما لمفاعل نووي للأغراض السلمية. ومن يكسب السعودية، يكسب الخليج، وأسواقه الغنية.
برزت حاجة السعودية مرة أخرى لروسيا في ظل الأحداث المتلاحقة، والأزمات الحالية التي تعصف بالمنطقة العربية، والنفوذ الإيراني المتنامي فيها (العراق، لبنان، فلسطين). وفي ظل سعي إيران الغنية القوية لامتلاك تكنولوجيا نووية بمساعدة روسية، الأمر الذي أخاف عددا من الدول العربية، والسعودية، وبشكل خاص إمارات الخليج الصغيرة الضعيفة، والمختلفة مع إيران منذ انتصار الثورة الإسلامية فيها، ومخاوف تصدير هذه الثورة إليها، ومنذ الحرب العراقية الإيرانية.
ففي العراق الذي تحده السعودية، والمهدد بالتقسيم، والذي يتصاعد فيه النفوذ الإيراني، مئات القتلى من المدنيين يوميا، وشبح الحرب (السنية الشيعية) الذي كشر عن أنيابه البغيضة في هذا البلد- وكاد أن يطال لبنان- يتلطى خلف الأبواب.
وفي لبنان تعطلت الحياة السياسية، وانقسم اللبنانيون انقساما حادا، وتوزعت صداقاتهم إن لم نقل ولاءاتهم بين إيران، والسعودية التي ترغب بكل قوة في مساعدة حلفائها اللبنانيين، وخاصة آل الحريري، وإقرار المحكمة ذات الطابع الدولي التي تشكل قضيتهم الأهم.
وفي فلسطين المحاصرة الجائعة، حرب شعواء بين فتح، وحماس التي تعتمد على إيران بشكل ملحوظ. ستأكل الأخضر واليابس، وتقيم دويلتين إحداهما في غزة، والأخرى في الضفة الغربية، إذا أبقت على شيء مما تبقى من فلسطين.
إضافة إلى ذلك فإن زيادة عدد القوات الأمريكية في العراق بنحو (48 ألف جندي) وطلب الرئيس بوش مجددا من الكونغرس الأمريكي تخصيص (90 مليار دولار) للعراق وأفغانستان. يعني أن هناك شيئا ما، يُبيّت ويُحضّر لبعض دول المنطقة.
إن صداقات روسيا في المنطقة تتركز بدولتين اثنتين (إيران وسوريا). وعلاقات السعودية مع هاتين الدولتين فاترة جدا إن لم نقل قد أصبحت متعارضة. وتمتين العلاقات مع روسيا قد أصبح مسألة هامة بالنسبة للسعودية في ظل هذه التوقعات والمخاوف والظروف. وما زيارة الرئيس الروسي (بوتين) المزمعة إلى الرياض إلا دليلا على أن السعودية قد خطت خطوة كبيرة في هذا الاتجاه، يدل على ذلك التأييد الذي لقيه في زيارته إلى روسيا كل من الرئيس السنيورة، والحريري، بخصوص المحكمة ذات الطابع الدولي.