في عصر العولمة مثلها مثل الكثير من مجالات نشاط الانسان من اُفرغت الرياضة من مضموها الاول كوسيلة للحفاظ على صحة الروح والجسد والتنافس البريء لبلوغ ارقام قياسية دون انتظار مردود مادي، ارقام لتاكيد الذات والتحدي ولقهر الانسان للطبيعة الصامتة. الرياضة في عصر العولمة غدت ساحة حرب جديدة دون اسلحة بين الامم لتحقيق المجد القومي والتفوق على الامم الاخرى.و يبدو ان ادراك الانسان بان التكنولوجيا المعاصرة جعلت من المستحيل تحقيق طرف ما الانتصار على اخر في حرب، فجعله الواقع الجديد يبحث عن وسائل اقل خسارة وكلفة للفوز على الامم الاخرى، ولو معنويا. والرياضة هي ذلك الميدان المناسب، اضافة لكونها غدت مجالا تجاريا محضا يعود بموارد مالية ضخمة ليس اقل من مواد الانتاج وتصدير الثروات الطبيعية،ولم تتخلف روسيا عن هذا الفهم.
يقول المثل الروسي ما معناه ان quot;الحلم غير مضرquot;. روسيا لاتحلم فقط بالعودة الى المسرح الدولي بثقل كقوة عظمى سياسيا واقتصاديا وصاحبة جبروت عسكري، بل وقوة رياضية ايضا. وجعلت روسيا من قضية خيار اللجنة الاولمبية العالمية لمنتجع سوتشتي الواقع على البحر الاسود عند مشارف جبال القوقاز الساحرة لتكون عام 2014 مكانا لاجرء الالعاب الالمبية الشتوية، هدفا قوميا. وشارك في تسويق المدينة الرئيس فلاديميربوتين الذي التقى بنفسه اللجنة الالمبية الدولية، وشارك في العملية اعضاء الحكومة والبرلمان ورجال الاعمال والمنظمات الاجتماعية ناهيك عن مشاهير الرياضيين الروس من اصحاب الجوائز وتحقيق الارقام القياسية في مختلف صنوف الالعاب الرياضية.بيد ان روسيا التي تستعد لتوظيف اموال طائلة لتكون دولة عظمى رياضيا، تنسى ان الملايين من سكانها بحاجة للعناية الصحية والتعليمية وتوفير ابسط الضمات الاجتماعية للحياة الكريمة. فهل يحق للدولة ان تكون عظيمة وسكانها في هذه الحالة.
روسيا تنعش حلمها الذي ظلت تعيش به طيلة سنوات الفوضى وانعدام رؤية الهدف والوسيلة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق. حلمها او وهمها الابدي بانها دولة عظمى. والحلم يتطلب ان تتقدم على كافة المسارات بما في ذلك الرياضي. وتدرك النخبة الروسية ان تحقيق هذا الهدف اصعب بكثير من تحقيق التفوق بالسلاح وبلوغ طفرة في النمو الاقتصادي او جذب الاستثمارات الاجنبية التي تنظر بحذر لتقلبات روسيا واوحوالها او الحصول على التكنولوجيات الراقية.
لقد خلقت الهزائم التي منيت بها الفرق الرياضية الروسية في السنوات الاخيرة في مختلف المبارات مشاعر الاحباط لدى الروسي. ومست اعمق مشاعره الى جانب تدني الانتاج الصناعي وخروج روسيا من التنافس على الفضاء الكوني او فقدانها قواعدها في كوبا وفيتنام. فلم يعد الراقصون على الثلج الروس كما عليه في زمن الامبراطورية السوفياتية الغاربة يحتكرون الجواز الذهبية والفضية، ويتركون للاخرين المراتب الاخيرة. وباتت الفرق الرياضية الروسية تحتل المرتب الثانوية في لعبة الهوكي الشعبية الرائجة بروسيا. لقد احتل التشيك والفنلديون والكنديون مواقعهم الاولى التي كانت تقليدية بالنسبة لهم على مدى سنوات طويلة. ولم نسمع منذ فترة طويلة اسماء لامعة تحقق ارقاما قياسية رياضية على مستوى دولي كما كان سبقا في الهوكي والجمباز والشطرنج وربما التنس حيث شارابوفا. وللحديث عن كرة القدم مجال اخر. فما حققه الروس في هذا المجال هو الهبوط اكثر عن مستوى لعبة كرة القدم في اوربا. وفشلت كافة الجهود المبذولة لتحسين مستوى اللاعبين ورفعهم لمستوى مقبول لايبعث على الخجل. وتدرك القيادة الروسية ما تنطوي عليه مباراة القدم الدولية اليوم من ابعاد سياسية وتجارية ومدى انعكاس خسارة الفريق امام فريق دولة اخرى على الروح المعنوية للمجتمع، وعلى تقيم الشارع للقيادة السياسية. وكان الرئيس بوتين محقا جدا حينما قال وهو يرد على سؤال عن دور المدرب الهولندي الذي استدعته روسيا بعد ان خاب املها بمدربيها الوطنيين لتطوير اداء فريقها الوطني لكرة القدم، ان العلة لاتكمن في المدرب وانما بمستوى وموهبة وقدرة اللاعب الروسي نفسه، قابليته على الاستيعاب للاساليب الحديثة بكرة القدم.
ويسعى الحلم في الرياضي الروسي في ان يتجسد بان تختار اللجنة الاولمبية الدولية منتجع سوتشي على البحر الاسود مكانا لاجراء الالمبياد الشتائي عام 2014 . ووعدت روسيا بانها ستوظف استثمارات مالية ضخمةقدرها الرئيس بوتين ب 12 مليار دولار في سبيل جعل المتجع الفقير يرتقي الى المستوى الرفيع الذي يتناسب مع مقاييس اللجنة الاولمبية . وكما قال الرئيس بوتين ان روسيا ستبذل كل ما في وسعها لجعل سوتشي عاصمة الالعاب الالمبية الشتوية.في اشار الة انها ستباشر ببناء الميادين الرياضية الفارهة في قمم جبال القوقاز التي ظلت تحتفظ حتى اللحظة بطبيعتها البرئية. وستبني الحكومة الروسية المزيد من الفنادق والمنتزهات ودور اللهو والتسلية لزوار المدينة المنتجع. روسيا مستعدة لمواصلة الانفاق حتى عام 2014 على المرافق الرياضية، من دون ان تفكر ان الخدمات الصحية والتعليمية والضمانات الاجتماعية والطرق عامة في عموم البلاد مازالت على مستوى بائس. ناسية ان هناك مئات الالاف من الكبار والاطفال اليتامى والظالين والمشردين يجوبون الشوارع بحثا عن لقمة تسد الرمق، هناك ناس يموتون من الجوع بصورة بطيئة، وان سكان روسيا تناقص في عام 2006 بحوالي نصف مليون انسان.وان هناك الملاين لايجدون العناية الطبية اللازمة لمعالجة حالات مرضية غدت سهلة جدا في الغرب. لست ادري هل يحق للدول تحقيق احلامها بان تكون عظمى على حساب حياة وكرامة ابنائها.
لقد اختتم رئيس اللجنة الالمبية الدولية جولته التفتيشية لسوتشي بتصريحات تركت الجانب الروسي في حيرة من امره، ان كان حلمه الرياضي سيتجسد على ارض الواقع، ام سيظل اطغاث احلام,ووفقا لتقييم تشيهار ايغاي فليس هناك جوانب ضعيفة في سوتشي لتحتضن الالعاب الالمبية، كطبيعة، ولكن هناك برايه، قضيتان تبعثان على الشكوك الاولى في ان تكون السلطات الروسية المعنية قادرة على انجاز المنشات الرياضية المطلوبة حتى عام 2014 وثانيا الوضع الايقولوجي للمدينة.في اشارة الى ان عملية البناء الكبرى ستدمر الطبيعة المحيطة التي مازالت تحتفظ بروعتها الاولى.
وتعيش روسيا قلق الانتظار. انتظار ان تصدر اللجنة الالمبية حكمها في ان تدخل سوتشي المرحلة الاخيرة من التنافس ام لا.