يُهيأ لي في غالب الوقت، أن حال العرب والمسلمين اليوم، كحال المريض الذي يرفض الدواء، مستمتعاً على نحو مازوكي، بآلام وأوجاع مرضه الطويل، ومفضلاً إياها على تناول الدواء، خوفاً من مرارته المؤقتة وآلامه الخفيفة أو الثقيلة - لكنْ المؤقتة أيضاً. وإلا ما الذي يحدث؟ ولماذا نحن بالذات بهذه الصورة القاتمة؟ لماذا نحن وليس غيرنا ننوء تحت كلكل ليل التخلف والانحدار؟ ولماذا نحن ونحن بالأخص، دوناً عن شعوب الأرض، مَن نرفض كل قوانين التاريخ الإنساني، ونصرّ على أنّنا كنا خير أمة اُخرجت للناس في الماضي، فإذا أردنا أن نعود خير أمة الآن، فلا بد من الرجوع إلى ذلك الماضي المجيد، واتخاذه نموذجاً أعلى، ومثالاً لا يُضاهى، نعمل على هديه، ونعيد استنساخه بحذافيره كماض ذهبي جميل، وليس ذلك فقط وإنما أن نصدّره أيضاً إلى الآخرين quot; الضالين quot;، ليعودوا إلى رشدهم وسَوائهم الآدمي الذي فطرهم عليه الله وأفسدته الحضارة الحديثة بإيغالها في الماديات على حساب الروح؟

سأعمد إلى التبسيط والتذكير في هذه المقالة، لعلّ وعسى :

أولاً : إذا كان لنا من ماض عظيم، فلسنا بدعاً في هذا. فاليونان مثلاً، كان لها الماضي الأبهى والأعمق والأقدم في التاريخ : الماضي الذي بُنيت عليه أساسيات حضارة الغرب التي نراها اليوم، ومع ذلك، فهي غير متعلّقة الآن، بماضيها ذاك، على نحو مرضي، كما نفعل نحن في لحظتنا الحاضرة. إنها فقط تعتزّ وتزهو أحياناً نادرة - وهذا حقها الذي لا يماري فيه أحد - ولا شيء أبعد من ذلك.
أيضاً ثمة بلدان وشعوب غير اليونان بالطبع. كان لها ماض رائع، وتراجعت عنه اليوم، فصارت أقرب إلى الهامش العالمي منها إلى متنه. فهل تحترف البكاء على الأطلال مثلنا؟ بالطبع كلا، وغاية ما هنالك، أنها تسعى جاهدة للحاق بعصرها وتعويض فجوات الفراغ والنقص، بعيداً عن أية عُقد تاريخية.

ثانياً : هل كل العرب والمسلمين، متفقون فعلاً إلى حد الإجماع العام، على أنه كان لهم مثل هذا الماضي الذي لا تشوبه كبيرة؟ الجواب معروف. وإذا نظرنا إلى ما يكتبه الباحثون والمختصون والمبدعون عن هذا التاريخ، وخصوصاً في الخمسين سنة الأخيرة، فسنجد الكثير مما يدحض تصوراتنا الموهومة، فهؤلاء، أقصد العرب والمسلمين القدماء، لم يكونوا في الواقع وفي الحقيقة، كما صُوّروا لنا عبر تاريخنا المدرسي. ففيهم ما في كل البشر التاريخيين من معايب ومثالب، وربما يزيدون أحياناً عنهم.

إذاً، فالأسلم والأقوم لنا، أن ندع الماضي يذهب إلى شأنه ومظانّه في كتب ومجلدات التاريخ على الرفوف، فهو شأن الباحثين لا شأننا. ولنلتفت نحن إلى حاضرنا وتحديات هذا الحاضر التي تنوء بحملها الجبال. لكن كيف لنا بلوغ هذه الغاية النبيلة، ومن خلفنا وأمامنا، من شمالنا ويميننا، ثمة قوى وتنظيمات ومؤسسات، تنعق علينا بعالي الصوت، أن لا خلاص إلا بالذهاب إلى ذلك الزمن الذهبي الجميل، زمن الصحابة والخلافة والرجال الفرسان الأطهار؟ لقد تحوّل ذلك الماضي إلى تميمة وإلى أيقونة : إلى عائق وإلى جدار : بالأحرى إلى ثقافة شعبوية، اخترقت حتى جدارن مكتبات بعض مثقفينا وإعلاميينا، ممن يقع عليهم، واجبُ التنوير والتغيير والتثوير ! ثقافة شعبوية كاسحة هو هذا الماضي العجيب : ضرب من السحر الحلال حلاّل أعتى وأكبر المشاكل والعُقد. فهو كلمة السر لخروجنا من التيه. وصفة طبية جامعة مانعة، كالبصل أو كالعسل ينفع لجميع الأمراض والأدواء، مع أنّ زمن الوصفات الجاهزة وزمن المعجزات المائزة، ولّى وانتهى بانطواء صفحة العصر الوسيط عن أوروبا وبقية العالم.
إنّ المشكلة الكبرى تكمن في هذه الثقافة الشعبوية تحديداً وتخصيصاً : ثقافة المسجد والمدرسة ومكان العمل وشاشات الفضائيات والندوات. فعلى أي جانبٍ يميلُ المواطن العادي الغلبان؟ ثقافة تضخّ سمومها ولا تني على مدار الساعة : في البيت في الفضاء العام في السيارة في الروضة في الجامعة في المكتب في المصنع إلخ إلخ، فكيف النجاة وكيف الهروب من هذا الحصار النووي؟ ثقافة بعينها، ما غيرها، هي ثقافة الإسلام السلفي والوهابي والإخواني، ثم أخيراً وليس آخراً : الطبعة المزيدة والمنقحة منها : ثقافة القاعدة وبن لادن وأيمن الظواهري؟ حصار محكم ولا حصار طروادة، حتى انتفى أي فضاء خاص وأية لحظة خصوصية لعربيّ ومسلم اليوم. فعلى أي جانبيك أيها المواطن العربي المنهوك تميل؟ لا مشاحة ولا مندوحة ولا مفر ولا منفذ : فكل الطرق تؤدي إلى هذا النوع من الإسلام العصابي المريض. وعليك أن تؤمن، فذلك أفضل لك ولعائلتك ولأحوالك، بأنّ هذه الأنواع من دينك، هي من سوف توصلك إلى بر الأمان والإيمان والرخاء الاقتصادي والتقدم العلمي والتكنولوجي والألكتروني، وصولاً إلى لحظة النصر الأكبر وهي دخول النادي النووي العالمي، فمن يدري، هل على الله والمؤمنين الخُلّص، من أمرٍ بعيد؟

ثقافة شعبوية يُضخ عليها ما لا أعرف من أرقام البنكنوت، وتُبنى لها الجمعيات والمؤسسات، وتُخصص لها فضائيات نافذة، ونجومَ إعلامٍ شعبويين هم أيضاً، من فنانين ملتحين وفنانات متحجبات وعلماء دين وعلماء طب وعلماء كيمياء وفيزياء وعلماء تنجيم وفلك [ فكله عند العرب علماء ] فهل من المنطقي بعد كل هذا الطوفان الجائح من البروبوغندا المسلّطة على المواطن العادي، أن نعوّل عليه - وهو الضحية - بصفته ملح الأرض ورافع لواء التغيير القادم؟ وهل من المنطقي كذلك، أن نعوّل على شريحة المتعلّمين، وهي تحيا ذات الحال والمآل؟ لمن نذهب إذاً، إذا كان لا أمل في هذا ولا في ذاك؟ هل نستورد شعوباً من المريخ أم ننتظر حتى تولد هذه الشعوب، لنشتغل عليها نحن المثقفين، القلّة، الهامشيين، الذين لا يجد معظمنا قوت يومه؟ ولا يجد معظمنا لحظة خصوصية واحدة في يومه، لكي يقرأ ويكتب ويفكّر؟ فحالنا من حال مواطننا العادي، إن لم يكن أسوأ وأوعر سبيلا.
ما العمل إذاً؟ ما العمل لتلمّس الخروج - مجرد الخروج - من النفق المعتم، ولا نقول إيجاد حلول أو ما شابه؟

يقول بعض مفكرينا بضرورة نزول المثقفين إلى الشارع والمسجد والميادين العامة : إلى ملاقاة الناس، والإنصات العميق لهمومهم وشجونهم، والتأثير عليهم بقدر ما يسمح الظرف والإمكان. ناسياً هذا البعض، ومنهم جورج طرابيشي الذي نقدّره ونحترمه، والذي يعيش منذ سنوات طويلة في باريس، أنّ هذه الفرضية ليست عملية هي أيضاً، ولا متاحة كما يتصوّر، هو البعيد في عاصمة النور، فالعالم العربي الذي نعيش بين ظهرانيه اليوم، ليس هو ذات العالم الذي كان يعيش فيه مفكّرنا، قبل عقديْن أو أكثر. لقد جرت مياه كثيرة ووسخة في النهر، وبالأخص، خلال العقدين الأخيرين : عقديْ انتشار تلكم الثقافة الوبائية، باسم الدين، وتمسّحاً بالدين.

كلا ! حتى لو وجِدَ هذا النوع من المثقفين، ولو أرادوا النزول إلى الناس، فلن يظفروا بهذه الفرصة. فثمة مُزاحمون كثر لهم، يملأون كل زاوية ومنعطف. دعاة أو سمّهم كما تشاء، بجلابيب باكستانية أو ببدلات، يمتلكون المال والكوبونات والمؤسسات وملايين اليورو والدولار، ويتمسّحون بأغلى ما لدى مواطننا وهو إيمانه وعقيدته، فكيف سيُزاحمهم ذلك المثقف المسكين المزعوم؟ أتدري يا عم جورج؟ لو جئتَ إلى بلادنا، بل لو جاء أينشتاين ذاته، فلن تكون له قلامة تأثير واحدة، على عرب اليوم، قياساً بما لأولئك المشايخ من قُلامات وملكُوتات !
ثم أتدري أيضاً؟ أريد أن أقول لك شيئاً بسيطاً بل تبسيطياً ولكنه مع ذلك حقيقي جداً وواقعي للغاية، وهو : أنّ الخرق اتّسع على الراتق، أكان من النصف نصف أو من نخبة النخبة، أتدري ليش؟ لأن المريض ذاته وصل إلى درجة من استحكام المرض، يرفض معها أن يعترف بمرضه من الأصل، فكيف تريد له أن يتقبّل الدواء، والدواء لا ينفع إلا مع المعترف بمرضه !

لقد أنجز أولئك المشايخ والدعاة، إنجازهم الأعظم في عالم اليوم : جعلوا من ملايين بل عشرات بل مئات الملايين من مواطنيهم المرضى، مرضى فريدين وعجيبين في تاريخ الأمراض : مرضى يظنون أنفسهم هم أفضل الأصحّاء، وأحسن الخلق، وأنّ العالم الضال بحاجة لهم لا هم بحاجة إليه !
ترى كيف يعمل المثقف، إن وجِدَ، بين هؤلاء؟
إن مثقف اليوم الجاد أو الذي له نصيب من هذه الصفة، لا يمتلك حتى قدرة التأثير على أولاده وبناته وبيته، فكيف تطلب إليه النزول إلى الشارع !

ما دامت هذه الثقافة الوبائية تنتشر وتزدهر كل مطلع شمس وكل مغيبها، فلا مكان للمثقفين، لا كشريحة ولا كأفراد، في دنيا العرب والمسلمين اليوم. وأظن، وآمل من كل قلبي أن يكون هذا الظنّ إثماً بالفعل، أن لا مكان لهم أيضاً في المستقبل القريب وربما حتى البعيد. فهم اليوم أكثر شريحة معزولة ومشلولة في المجتمع. فلا أحد تقريباً إلا نسبة لا يُعتدّ بها، يحتاج لبضاعتهم - لنتكلّمْ بلغة السوق ! كما لا أحد يقرأ ويحب الكتاب : لا من المتعلمين ولا من الجامعيين ولا من حملة الدكتوراه. فهو زمن الجزيرة وروتانا لا زمن الكتاب. وهو زمن تفاهات الإنترنت العربي والدش العربي الأزرق، لا زمن مطبعة غوتنبرغ، وهو زمن القرضاوي وعمرو خالد، لا زمن سقراط. فكيف تريدنا يا سيدي أن نمشي في الشوارع والطرقات ونعلّم الناس الحكمة [ بافتراض أننا نمتلكها وهو أمر نشكّ ونستريب فيه كثيراً ] وما نحن بمحاوري سقراط ولا من معاصريه؟

لقد مات زمنُ المثقف في بلادنا [ الذي لم يكد يولد ]. مات منذ جاء الثورجيون والإستقلاليون والقومجيون، ومن بعدهم المتأسلمون، والباقي عندك !

يُهيأ لي، للمرة الثانية، أن مضمون وفحوى هذه المقالة، أدنى طموحاً بكثير مما كان يكتبه التنويرون العرب الأوائل قبل قرن من الزمان. فالمعذرة ثم المعذرة. فلا جديد تحت شمس المقال العربي، ولا جديد لدى المثقف العربي ذي البضاعة البائرة، ولا جديد تحت شمس الله في هذا الشرق : إنها المياه القديمة ذاتها نصُبّها في أوانٍ جديدة فقط لا غير، ونغُصُّ، نجأرُ، لا نزال، بملح العطش !