يبدأ تاريخ فلسطين عند المثقف الفاشي، من لحظة ما بدأ هو في القول والكتابة. فلسطين قبله، هي لحظة من العدم أو الهيولى. هيولى لم تشرع في التشكّل والتعيّن، إلا عندما حضرَ هو. لذلك فالمثقف الفاشي هو أول فلسطين وآخرها ربما. تاريخها من تاريخه، ومسارها من مساره. فهي هو وهو هي. أما الأسماء التي سبقته، فلا وجود لها في قاموسه ومخياله. إنها أوهام، ومعه هو تبدأ الحقيقة في تدشين ذاتها وتحقيق تجلياتها.

الحلقة الأولى
وبما أنّ المثقف الفاشي مُحتكر دائم للحقيقة، فلا يصحّ لأحدٍ، أياً كان، أن يزاحمه أو يعارضه، في اقتسام تلك الحقيقة، سواء أكانت تاريخية أم سياسية أم ثقافية.
واليوم سنتكلّم عن الجانب السياسي لدى هذا المثقف. فهذا المثقف هو رجل حرب بامتياز. إنه ضد السلام بالمطلق، بغض النظر إن كان السلام عادلاً أم منقوصاً. لأنّ فلسطين من وجهة نظره، ما هي إلا وقفٌ إسلامي، مُلكٌ للمسلمين عموماً، ولا يجوز لأحدٍ من سكانها الوطنيين، أن يحاول ويجتهد، بل يجب على الجميع، فلسطينيين وغيرهم، أن ينتظروا وينتظروا، حتى تعود لهم فلسطين التاريخية بكامل ترابها وسمائها، على يد فاتح إسلامي جديد، مثل صلاح الدين الأيوبي مثلاً.
تلك هي رؤية المثقف الفاشي: رؤية ماضوية خالصة مُخلّصة، تقوم على quot;انتظار ما لا يأتيquot;. وكل من يحاول نقد هذه الرؤية، فهو يستحق النقض لا أقلّ: اتهامه بالعمالة أو الكفر أو بكليهما معاً لا أقلّ.
بهذه الرؤية التبسيطية، الصبيانية والمرعبة، يتعامل المثقف الفاشي مع غيره من المثقفين الفلسطينيين والعرب. ممنوع السلام. ممنوع الحديث عن السلام. ممنوع الاجتهاد السياسي. ممنوع فتح ثغرة في الجدار السميك، ممنوع البحث عن أفق للحلّ والتخفيف من مآسي الناس، حتى يقرّر محتكرو الله من أمثاله ونظائره، فإن هم قرّروا، فعلى غيرهم السمع والطاعة. فهم الأوصياء وهم الأمناء. لذلك كل حديث عن السلام، أو التسويات السلمية، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، هو باطلٌ، بل وأبعد من البطلان: حرام.
هكذا يفكّر وينظّر المثقف الفاشي. فإن قلت له إنه غير واقعي بالبداهة، وإنه يستجلب صفات من الحقل الديني المتعالي، ويسقطها عنوة على الواقع السياسي الأرضي، نظرَ إليكَ باحتقار، وقال لك [ طظ فيك وفي الواقع ! ].
لا بأس. الطظ الأولى يمكن احتمالها، فماذا عن الثانية ؟ ماذا عن quot;الطظ في الواقعquot; ؟ لقد علّمنا التاريخ أنّ كل من يحتقرون الواقع، يحتقرهم الواقعُ بدوره ويطردهم من ملكوته: يرميهم على هامش التاريخ، وفي حالات ليست نادرة، يُخرجهم بالكُليّة من سِكّته.
ومع ذلك، لا يرى المثقف الفاشي ما نراه أو يراه الآخرون. فمن نحن ومَن الآخرون في نظر الفاشي ؟ إنهم تقريباً لا شيء. هَوَام أو هوامش لا أكثر. فالمثقف الفاشي هو مركز الحياة ومركز الكون ومركز الحقيقة أيضاً.
مثقف تربّى على الممانعة الأبدية وعلى الخطابة وعلى استئجار حناجرَ قبيلةٍ من الأنبياء. مثقف، كالله، إذا [ قال ] للشيء كن فيجب على الشيء أن يكون، فإن لم يكن، فالعيب والخلل في الشيء ( الذي هو الدنيا وإسرائيل وقارّات العالم الست ) وليس في المثقف الفاشي. فالمثقف الفاشي أدّى واجبه وأتمّ مهماته، بمجرد أن قال، وعلى [ الشيء ] أن يفعل من تلقاء ذاته بمجرد أن يصدر [ القولُ ] إليه !
إنّ مهمة المثقف الفاشي أن يقول لا أن يفعل. فالعالم عنده هو محض لعبة لغوية. لعبة تحتقر الفعل والعمل، وتحتقر عصرها وحقائق عصرها. وكل ذلك لماذا ؟ لأنّ المثقف الفاشي، محتكر الله الأكبر، في هذه المنطقة من العالم الواسع، صار من شدة استيهامه لله مثل الله، ومن شدة استيهامه لله، مقدساً مثل الله ذاته.
أظنّ أنّ هذا هو [ جذر المشكلة ] لدى المثقف الفاشي. فهو كائن إلهي يمشي بقدمين بشريتيْن. ولغته من لغة الأنبياء، وحاشا أن تمتّ للغة التي نتكلّمها نحن أبناء عصرنا التاريخيون.
ولقد جرّبت أممٌ من قبلنا أمثال هذا المثقف، فكان ما كان من بؤسها وشقائها. وبغض النظر، أكان المثقف الفاشي علمانياً أم دينياً أم خليطاً من كليهما، فإنّ النتيجة واحدة: استجلاب الدمار والخراب والعدم على شعوبهم وعلى البشرية جمعاء.
لكن المشكلة لدينا أنّ فلسطين، التي لم تصبح دولة بعد، هي مساحة جيو سياسية صغيرة جداً، أوضاعها فائقة التعقيد، ولا تحتمل هذا النوع من المثقفين. فهم نوع خطِر على وجودها ذاته في زمنيْه: الحاضر والمستقبل. ونوع أخطر ما يكون على ثقافتها المتنوعة تاريخياً. فلو استسلمت هذه الساحة له، فسوف تصير خراباً كاملاً.
ونحن في الحق نخشى من احتمالات ذلك. ذلك أن الفضاء الاجتماعي الفلسطيني بدأ يتّسع لهؤلاء. وبدل أن يلفظهم كما كانت العرب قديماً تلفظ البعير الأجرب، هو يحتضنهم، ويوسّع لهم المكان.
إنّ المثقف الفاشي، كما صوّرناه أعلاه، هو مثقف عدمي من الطراز الأول. هو غراب الخراب واليباب. ينعق في كل الاتجاهات وفي كل الأوقات. وينثر المقت والكره والفظاظة أينما حلّ وحيثما اتّجه. لذا علينا أن ننتبه له، وأن نجترح المعجزات لكي يتحوّل إلى غراب إدغار ألن بو ! فما مضى لن يعود. وفلسطين ليست ناقصة عدماً وخراباً، فما فيها منهما يكفيها ويزيد. من أجل هذا يجب علينا ألا نوسّع له، لا في صحفنا ولا في وسائل إعلامنا ولا في ندواتنا، فإن أراد القول فليقل بعيداً عنا. على الأقل حينها يكون تأثيره قليلاً أو حتى معدوماً. أما أن نستضيفه على شاشة التلفزيون وموائد المثقفين العلمانيين، أو الوطنيين، بدعوى التسامح والصداقة الشخصية فلا. فهذا مما يزيد في أوهامه، ويُفاقم من نرجسيته، فيشعره أنه مهمّ وذو شأن.
يجب إقصاء وإلغاء هذا المثقف الظلامي. فإن لم نستطع، وأنّى لنا أن نستطيع في زمان انفجار وسائل الإعلام، فلا أقل من تهميشه وعزله عن عصب الحياة الثقافية في بلادنا.
قد يبدو هذا الطلب غريباً حينما يصدر عن كاتب هذه المقالة. لا بأس مرة أخرى. فليس من ديدني إقصاء وإلغاء أي أحد، فكل عود فيه دخانه، كما يقول مثلنا الشعبي، وأنا أحترم كل أصحاب الأفكار والأطروحات، بشرط أن يمتلكوا أفكاراً وأطروحات، أما مع المثقف الفاشي فالأمر مختلف. فهو شيخ في جلباب مثقف. أي لا يمتلك شيئاً من تلك البضاعة. إنه فقط يشخصن الأمور، بل وأبعدَ: يؤلّهها !، وكل خلاف في الفكر بينك وبينه يحوّله هو إلى خلاف شخصي، أو، يا للهول، خلاف مع الله ذاته ! فكيف ستتفاهم معه في الأول والأخير ؟

إلى ذلك، وعلى ذكر الموقف السياسي للمثقف الفاشي، دعونا نتذكّر الآن، حادثاً جرى قبل نحو ثلاثة عقود، هنا في غزة. أيامَ زار السادات إسرائيل، وطفق في مشاورات جدية لتحقيق السلام مع قادتها. حينها، كما يتذكّر الغزيّون، زاره أحد مشايخنا المتنورّين في القاهرة، مؤيداً مساعيه ومبارِكاً إياها، وحين عاد الشيخ لأبناء بلده وأهله، قُتلَ واعتُبر خائناً. حتى أنّ أحداً من خارج عائلته الصغيرة، لم يتجرّأ على المشاركة في تشييع جنازته. كنتُ بالصدفة مارّاً بجوار المقبرة الملاصقة لساحة السيارات الشهيرة في قلب المدينة، وكنت فتى تحت العشرين، ولا أعرف كيف تجرّأت وقتها وشاركت في الجنازة. في ذلك الوقت كنت أعمل محرراً أدبياً في مجلة الشروق لصاحبها محمد خاص، وقد أخبرته بالأمر حين وصلت مقرّ المجلة، فخاف الرجل الطيب عليّ، وقال لي أنّ أحدهم لو رآك، مِن رجال التنظيمات، لكنت وقعت في مأزق. لكنّ الله سلّم، ومضى الحادث بدون مضاعفات.
أتذّكر الآن هذه الحادثة، وأترحّم على الشيخ القتيل، قريب شاعرنا الجميل وليد الخزندار، فما كان يريده لشعبه، لم يعد متاحاً. وها هو الزمان يدور، وسقف مطالبنا ينخفض يوماً بعد يوم، بحكم متغيّرات الواقع والسياسة، عما طالب به الشيخ، الذي سبق عصره وسبق رؤى كل المثقفين الفلسطينيين الطليعيين والثوريين ! أتذكّر وأسأل: ماذا لو رضينا حينها بما عرضه علينا السادات وقَبِلَهُ الشيخ الخزندار ؟ وماذا لو اختصرنا المأساة من أولها ورضينا بما نصحنا به العظيم بورقيبة ؟ طبعاً لا محل لهذا السؤال الآن، لأنه لا جدوى من البكاء على اللبن المسكوب. ومع ذلك لا بأس من استدعاء هذه القصة، كي لا يأخذنا النسيانُ إلى عتمة العدم، وكي لا نبدأ دائماً من نقطة الصفر. فالشعوب التي بلا ذاكرة، غالباً ما تُلدغ من نفس الجحر مرتين وثلاثاً وعشراً.
لقد كان مجرد التفكير بالاعتراف بقرار 242 خيانة وطنية عظمى آنذاك. الآن صار هذا القرار سقفاً لأمنياتنا، يجمع عليه معظمُ من كانوا رفضوه سابقاً.
لذلك يجب علينا أن نتعلّم من أخطاء التجربة، وأن نأخذ العبر والدروس، فلا ندفع الثمن عشرات المرات. وأولى هذه العبر والدروس، أنّ الرفض العدمي أخطر على مصائر الشعوب، أحياناً من أعدائها الصريحين والمباشرين.
بل إنّ هذا الرفض يخدم في النتيجة أعداءنا فقط.
وعليه فيجب مقاومة هذه الثقافة الرفضوية، وبالأخصّ إذا كانت تتمسّح بمسوح الدين. فقضيتنا سياسية بالأساس، وفي السياسة لا مقدسات أبداً. بل ممكنات وكرّ وفرّ وخُذ وطالِب.
إنّ خطورة المثقف الفاشي على فلسطين، أنه سيجهز على آخر ما تبقى منها، لو تُركت الأمور سائبة بين يديه. فهو مثقف موت لا حياة، ومثقف نكوص لا أمام.
مثقف يستمتع بالمآسي والأهوال، ويسعى إلى تأبيدها على مواطنيه وأفراد شعبه، مقابل ألا ينخدشَ صوابُ فكرته. مثقف يجيد إقفال كل النوافذ والأبواب. لذلك فهو أخطر على فلسطين، الشعب والقضية، من إسرائيل ذاتها. إن لم يكن كذلك في هذه اللحظة، فهو كذلك في الرؤية الاستراتيجية والمدى البعيد.
وعليه، فبدلَ أن نوسّع له في مجالسنا ومؤسساتنا وفضائياتنا، علينا أن نأخذ بيده، ونوسّع له مكاناً في مشافينا النفسية. بذلك نحاول علاجه من عُقد نقصه ومن تفاقمات مرضه النفسي، فنحسن له كمواطن فلسطيني له كامل الحق في توفير سرير العلاج ومتطلّبات العلاج.