الخطاب الذي ألقاه العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في مبنى الكونجرس الأميركي يوم الأربعاء الموافق السابع من مارس 2007، أمام ممثلي الشعب الأمريكي من شيوخ ونواب، حظيّ باهتمام أمريكي وعالمي غير مسبوق، بسبب العقلانية والرؤية الحكيمة التي توجه بها لممثلي القوة العظمى الأولى في العالم، انطلاقا من نظرة عربية عليها إجماع للسلام ومستقبل المنطقة. وقد جاء الخطاب دقيقا ومركزا في ثمانية وعشرين دقيقة، قاطعه النواب والشيوخ الأمريكيون بالتصفيق الحاد خمسة عشر مرة منها ثلاثة مرات وقوفا، مما عنى للمراقبين من عرب وأجانب أنه تمكن فعلا وبصدق من إيصال الرسالة العربية، وخطابه المميز هذا هو أول خطاب لرئيس دولة أجنبية أمام الكونجرس الأمريكي منذ انتقال السيطرة والأغلبية فيه للمعارضة الديمقراطية. وقد قدّم العاهل الأردني رسالة ميدانية للشعب الأمريكي مفادها أن العنف والإرهاب لا يستثني أحدا، وذلك من خلال تلك اللمسة الإنسانية إذ اصطحب معه أشرف الدعاس وعروسه ناديه العلمي اللذين حدث تفجير الفنادق الأردنية الإرهابي أثناء حفلة عرسهما، ومنصور الذنيبات وزوجته اللذين فقدا ابنتهما الوحيدة في تلك التفجيرات الإرهابية في التاسع من نوفمبرعام 2005، وكان مؤثرا أن يجلس هؤلاء الضحايا العرب يستمعون لخطاب جلالته مع بعض ضحايا الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001، ليعرفوا أن الإرهاب يطال الجميع بغض النظر عن الديانة والأصل، و بالتالي لابد من الاهتمام بالقضايا التي ركّز عليها الخطاب الملكي، و هي من أسباب العنف، وأساسها القضية الفلسطينية التي حظيت بمركزية واضحة في الخطاب، جعلت الرئيس الفلسطيني محمود عباس يقول تعقيبا على الخطاب : (إن هذا الموقف ليس غريبا عن جلالة الملك الذي عودنا دائما أن يكون إلى جانب الحقوق الفلسطينية وفي مقدمة المدافعين عن قضية فلسطين).

لا أستطيع التزام الصمت
بكل جرأة ووضوح ودون مواربة، استهل العاهل الأردني خطابه قائلا: (... اليوم عليّ أن أتكلم، فلا أستطيع التزام الصمت. عليّ أن أتكلم عن قضية ملحّة لشعبكم ولشعبي. فعليّ أن أتكلم عن السلام في الشرق الأوسط، وعليّ أن أتكلم عن سلام يحلّ محل الفرقة والحرب والنزاع الذي جلب الكوارث للمنطقة وللعالم. لقد كانت هذه هي القضية نفسها التي جاء من أجلها والدي الملك حسين هنا في عام 1994... وقد تحدث ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين إلى جانبه عن رؤية جديدة للشرق الأوسط. لقد تلقى عملهم الشجاع من أجل السلام دعما من قادة الحزبين لديكم. إن هناك من يقول: ليس هذا شأننا، ولكن هذا الكونجرس يعلم أنه ليس هناك متفرجون في القرن الحادي والعشرين، وليس هناك فضوليون يكتفون بالنظر، وليس هناك من لا يتأثر بالانقسامات والكراهية السائدة في عالمنا).

هل القضية الفلسطينية تستحق كل هذا التركيز؟
وفي ظل وجود من يطرح هذا السؤال خاصة في الأوساط الغربية التي لا تسعى جادة لإحلال السلام في المنطقة، جاء جواب العاهل الأردني واضحا وجريئا: (أنا هنا بينكم اليوم باعتباري صديقا لكم لأقول... إنها فعلا القضية المحورية، وهذه القضية لا تقف عند حد إحداث نتائج بالغة القسوة لمنطقتنا، بل تتعدى ذلك إلى إحداث نتائج بالغة القسوة لعالمنا. إن أمن جميع البلدان واستقرار اقتصادنا العالمي يتأثران بصورة مباشرة بالنزاع في الشرق الأوسط. وعبر المحيطات تسبب هذا النزاع في إبعاد المجتمعات عن بعضها البعض، في الوقت الذي يفترض فيها أن تكون صديقة. إنني ألتقي بمسلمين يبعدون عنّا آلاف الأميال يحملون في قلوبهم تأثرا شخصيا عميقا بمعاناة الشعب الفلسطيني، ويريدون أن يعرفوا كيف ظلّ الشعب الفلسطيني حتى الآن دون حقوق ودون دولة، ويتساءلون إن كان الغرب يعني فعلا ما يقوله عن المساواة والاحترام والعدالة الشاملة.... نعم أيها الأصدقاء عليّ أن أتكلم، فلا أستطيع الصمت).

هل هو صوت الاعتدال العربي أم الإجماع العربي؟
ورد في بعض التعليقات على الخطاب أن العاهل الأردني ألقى خطابا قويا ومميزا باسم قوى الاعتدال العربي، وأنا أرى أن في هذا التوصيف مغالطة كبيرة، ففيما يتعلق بالموقف من السلام و الدولة الإسرائيلية هناك إجماع عربي تمثل في المبادرة العربية عام 2002 التي طرحها الملك عبد الله بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية، تلك المبادرة التي طرحت الاعتراف العربي الجماعي بدولة إسرائيل مقابل قيام دولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967 بما فيها القدس، ولم تعترض على تلك المبادرة العربية أية دولة عربية بما فيها سورية التي تحاول أو يحاول البعض وضعها في جبهة تسمى (الصمود والتصدي) مقابل باقي الدول العربية قاطبة التي يسميها البعض (جبهة الاعتدال العربي). وهذه نقطة مهمة حيث أن سورية ذاتها وافقت على المبادرة العربية المذكورة، وهي ليست ضد السلام الشامل العادل الذي يقيم الدولة الفلسطينية ويعيد هضبة الجولان السورية المحتلة منذ عام 1967، وقد أجرت سورية العديد من جولات المفاوضات مع إسرائيل في زمن الرئيس حافظ الأسد ولكن التعنت كان دوما من الجانب الإسرائيلي، وفي زمن الرئيس بشار الأسد تم الإعلان أكثر من مرة عن استعداد سورية لاستئناف المفاوضات وتستمر المماطلة الإسرائيلية ذاتها، مع أن الملف السوري مع إسرائيل لا لبس ولا تعقيدات فيه إن قررت إسرائيل السلام العادل والشامل، فالانسحاب الكامل غير المشروط من الجولان السورية من لوازم المبادرة العربية التي حظيت بالإجماع العربي بما فيه السوري، لذلك فخطاب العاهل الأردني في الكونجرس الأمريكي كان صوتا عربيا يمثل الإجماع العربي الذي يريد سلاما عادلا شاملا، وليس سلاما مؤقتا يعيد التوتر والتفجير للمنطقة في أية لحظة، من هنا أكدّ العاهل الأردني على أن (أصل المشكلة هو إنكار العدالة والسلام في فلسطين. ويجب أن يكون سلاما يمكن المنطقة بمجملها من أن تتطلع إلى الأمام بتشوق وأمل، لتضع مواردها من أجل النمو المثمر وعقد الشراكات عبر الحدود لتحقيق المزيد من التنمية وإيجاد الفرص والبحث عن حلول للتحديات المشتركة).

ردود الفعل العربية
لذلك كانت ردود الفعل العربية إيجابية ومثمنة للخطاب الملكي الأردني، فبالإضافة لتثمين الرئيس الفلسطيني محمود عباس،أعرب رئيس الوزراء الفلسطيني السيد إسماعيل هنية في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء الأردني الدكتور معروف الخطيب عن تقديه لموقف الملك عبد الله الثاني في دعم الحقوق الفلسطينية، كما صرّح الدكتور غازي حمد الناطق الرسمي باسم الحكومة الفلسطينية مؤكدا على أهمية دور العاهل الأردني تجاه القضية الفلسطينية (مؤكدا على وجود العلاقة التاريخية بين فلسطين والأردن واصفا إياها بأنها علاقة ثابتة وأن الأردن سند داعم للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة و انهما دوما في مسار واحد.... إن خطاب جلالته التاريخي كان واضحا في دعوته لإنهاء الاحتلال وأنه بمثابة رسالة قوية للإسرائيليين مفادها أنه لا يمكن تحقيق الأمن والسلام إلا بوضع حد لبؤرة الصراع الاحتلالي وإعادة حقوق الشعب الفلسطيني)، وتمنى الدكتور غازي حمد (أن يعي الشعب الأمريكي الرسالة التي وجهها جلالته وأن يفكروا بمنطق العقل والإنصاف وعدم التحيز لصالح إسرائيل إضافة إلى عدم تجاوز القضية الفلسطينية)، وضمن نفس السياق كان تثمين الخطاب لدى الدكتور صائب عريقات رئيس دائرة المفاوضات في السلطة الوطنية الفلسطينية، والسيد ياسر عبد ربه عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والرئيس الباكستاني برويز مشرف، وولي عهد البحرين الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة. ومن داخل الولايات المتحدة الأمريكية، صرّحت نانسي بيلوزي رئيسة مجلس النواب الأمريكي (إن جلالته أرسى معايير عالية جدا لمخاطبة الكونجرس الأمريكي لمن يتبعه من القادة)، أما السيد جيمس زعبي رئيس المعهد العربي الأمريكي، فقد قال (إن الرسالة التي وجهها جلالة الملك للكونجرس قوية وشجاعة فهي قد تكون ذكية بالنسبة للعرب ولكنها بالنسبة لأميركا قوية)، وقد عبّر عن نفس التوجه ممثلو المخيمات الفلسطينية في الأردن.
إنه خطاب العقل والتطلع العربي للمستقبل بعد كل هذه المعاناة (وأقول هنا.. لا لمزيد من سفك الدماء، لا لمزيد من الموت بدون سبب. الصبي الصغير الذي يذهب إلى المدرسة مع أخيه في فلسطين.. دعه ينعم بالسلام. والأم التي ترقب بخوف أولادها وهم يصعدون إلى الحافلة في إسرائيل... دعوها تنعم بالسلام. والأب الذي يعمل بجد لتوفير التعليم لأطفاله.. دعه ينعم بالسلام. والفتاة الصغيرة التي ولدت في العراق، وعيناها مليئتان بالدهشة... دعوها تنعم بالسلام. والأسرة التي تتناول معا وجبة العشاء في آسيا، وأفريقيا، وأمريكا الجنوبية، وأمريكا الشمالية، وأوربا، وأستراليا، والشرق الأوسط... دعوها تنعم بالسلام... فاليوم أيها الأصدقاء، علينا أن نتكلم فلا نستطيع التزام الصمت). نعم ما عاد السكوت ممكنا بعد كل سنوات العذاب وضياع الحقوق خاصة للشعب الفلسطيني، فهل تسمع دولة إسرائيل هذا النداء الملكي الذي يؤكد المبادرة العربية الجماعية للسلام؟ وهل تتحرك الولايات المتحدة الأمريكية كما هو مأمول منها للقيام بدورها التاريخي، بعد أن ذكرّهم العاهل الأردني بأنه قد واجه (11 رئيسا أمريكيا و 30 مجلسا من مجالس الكونجرس الأمريكي هذه الأزمة المتواصلة دون انقطاع... لنقل معا، ليس من أجل أجيال المستقبل، بل من أجل الجيل الذي يعيش بيننا اليوم، أننا لا نريد المزيد. لنقل معا.. لنجد حلا لهذا) والحل هذا ليس سحريا ولكنه كما قال الرئيس الأمريكي روزفلت، وذكّر الجميع به العاهل الأردني في خطابه النوعي المميز (إن عدالة السلوك الأخلاقي يجب أن تفوز في نهاية الأمر، وسوف تفوز). والشعب الفلسطيني بعد كل هذه المعاناة والظلم يتطلع لهذه العدالة الإنسانية، والأمر (منوط بالدول التي تتحمل المسؤولية كي تقف مدافعة عن العدالة التي يتهددها الظلم). خطاب غير مسبوق للعاهل الأردني يستحق كل هذا التركيز الإعلامي والثناء الذي قوبل به. نعم إنها صرخة كل عربي (فلا أستطيع الصمت).
ahmad64@hotmail.com