حصلت عدة أزمات اقتصادية في السابق تجاوزت آثارها الحدود الوطنية لتصبح أزمات عالمية اكتوت بنارها شعوب الأرض قاطبة. ربما اشهرها أزمة 1929 في أمريكا، التي انعكست سلبا على أوروبا، و كان سببها الحماية الجمركية التي جعلت كل بلد ينغلق على نفسه مساهما على هذا النحو في انكماش السوق الدولية. ساعدت هذه الأزمة على صعود الحركات الفاشية و النازية في القارة، و انتهى الأمر بنشوب الحرب العالمية الثانية. كما ارتفع التضخم بالتزامن مع الركود الاقتصادي اثر ارتفاع أسعار النفط عام 1973، مما انعكس سلبا على معظم اقتصاديات العالم. ثم جاءت أزمة مديونية الدول النامية في الثمانينات من القرن الماضي، عندما أعلنت المكسيك عدم قدرتها على سداد دينها الخارجي. و انهارت معظم العملات الآسيوية عام 1997، مما أدى إلى ركود في منطقة اعتبرت لفترة طويلة قاطرة نمو الاقتصادي العالمي. و قد يعني كل هذا إمكانية حدوث أزمة عالمية في المستقبل إذا ما توفرت الأسباب لذلك. و هذا ما حذر منه الرئيس السابق لمجموعة quot;بيجو- سيتروان quot; لصنع السيارات الفرنسية quot;جاك كالفيquot; في مقاله الأخير بعنوان quot; النظام النقدي العالمي المهدد quot;، المنشور بصحيفة quot;لوموند quot; بتاريخ 23 فبراير الماضي.
بدا السيد كالفي بتشخيص ما اعتبره الخلل الأساسي في النظام النقدي الحالي، ألا و هو استثمار السلطات الصينية لجزء كبير من احتياطياتها من العملة الصعبة التي تراكمت نتيجة فائض ميزانها التجاري، في السندات الحكومية الأمريكية. و ساعد هذا أمريكا على الاستمرار في عجزها التجاري من ناحية، و عدم تخفيض الدولار بما فيه الكفاية لتقليص هذا العجز، من ناحية أخرى. و هذا ما يكذب اسطورة أن العولمة أمريكية كما وضحت في مقال سابق.
يعني هذا أن توقف الصين عن الاستثمار في السندات الأمريكية -لاسباب سياسية على الأرجح - سوف يؤدي حتما إلى انخفاض كبير في سعر الدولار. لكن السيد كالفي يذهب ابعد من ذلك للاستنتاج بان هذا سوف يؤدي إلى ركود اقتصادي كبير في أمريكا. و هذا استنتاج لا مبرر له، لان تغيير وجهة الاستثمار الصينية قد تتم على الأرجح على مراحل، و حتى لو تمت بسرعة فان انهيار سعر الدولار سوف يزيد من تنافسية المنتجات الأمريكية في الخارج ( بما فيه الصين )، و هذا عامل نمو للاقتصاد الأمريكي لا العكس. لكن من المستبعد أن تتخذ الصين مثل هذا القرار السياسي في موضوع اقتصادي لأنها تدرك جيدا أن اقتصادها في ظل العولمة اصبح جزء لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي و سيتضرر بدوره.
لكن الأهم و الجديد في الأمر - و هو ما أكد عليه الكاتب نفسه - إن السياسة الصينية تتغير هذه الأيام لا باتجاه مقاطعة أمريكا - بالتوقف عن شراء سنداتها الحكومية -، لان مثل هذا الموقف يضر بالمصلحة الصينية اكثر مما يضر بأمريكا، بل باتجاه الاستثمار في اسهم كبرى الشركات في أسواق راس المال الأمريكية، مما يجعلها مالكة لها و يعطيها القدرة على التحكم في سياساتها، تماما كما اصبح للأمير الوليد بن طلال صوت في تطوير استراتيجية مجموعة quot;سيتي - جروب quot; المصرفية العملاقة، عندما استحوذ على جزء هام من أسهمها.
بدا مثل هذا الاستحواذ - من مؤسسات تابعة لدول الجنوب - منذ سنوات. يكفي أن نذكر بما جاء في تقرير نشرته مجلة quot; نيوزويك quot; في عدد 25 ديسمبر الماضي من أن كبرى الشركات العالمية العملاقة، التي ستكون لها الريادة خلال العقود القادمة ستكون من الدول النامية، و ذلك بالاستناد إلى كتاب جديد بعنوان quot; قرن الأسواق الناشئة quot;. و من الأمثلة التي قدمها الكاتب شراء شركات صينية متخصصة في الصناعات الإلكترونية لأقسام هامة في شركات quot; تومسون quot; و quot; الكاتيل quot; الفرنسيتين، وشراء شركة quot; لينوف quot; الصينية لقسم تصنيع الكمبيوتر المحمول التابع لشركة عالمية في مايو 2005 بـ1.75 مليار دولار.
مثل هذا الاستحواذ - الصيني لاسهم الشركات الأمريكية - إن حصل سوف يصب في صالح أمريكا و الصين على حد سواء، إذ يعطي الأخيرة فرصا لتنويع استثماراتها و السيطرة على شركات عالمية رائدة، كما يضخ أموالا في الاقتصاد الأمريكي مما يطور قدرته على زيادة النمو و الاستثمار في الأبحاث و تصدير براءات الاختراع إلى العالم كله، و هي الميزة الأمريكية الأساسية في عالم اليوم (تذكروا استحواذ أمريكا على جوائز نوبل العلمية بالكامل خلال السنة الماضية، و تصدر 18 جامعة أمريكية افضل 20 جامعة عالمية في مجال البحث العلمي ). فسواء استمر الصينيون في استثمار فائضهم التجاري في السندات أو الأسهم الأمريكية، أو قاموا برفع سعر عملتهم الوطنية لتقليص هذا الفائض، سوف يكون بمقدور الاقتصاد الأمريكي و من ثم العالمي التأقلم مع الواقع الجديد، و الخطر الوحيد قد يأتي من الحكومات إذا ما حاولت التدخل و اتخاذ قرارات مالية غير سليمة لاعتبارات سياسية، إذ أن الزج بالسياسة في الاقتصاد لا يقل ضررا عن الزج بالدين في السياسة.
أما الخلل الثاني في النظام العالمي الراهن، حسب رأيي، فهو يخص وضع أسواق راس المال. بدا تدهور البور صات الآسيوية مؤخرا بتدهور أسعار الأسهم في بورصة شنغهاي الصينية، ثم انتقلت العدوى إلى الأسواق المالية الأخرى. و يكمن الخلل هنا في بعض نقاط ضعف الأطر التشريعية و المؤسسية لهذه الأسواق -خصوصا في الصين- حيث شروط الإفصاح أو الكشف عن المعلومات ( Disclosure) و الشفافية (Transparency) لا تلبي المتطلبات الدولية في هذا المجال. و هنا تبدو المسؤولية الأساسية للحكومات واضحة على اعتبارها الجهة التي من المفروض أن توفر مثل هذه الشروط.
و أما الخلل الثالث الذي قد يعصف باقتصاديات الدول النامية و من ثم بالاقتصاد العالمي ككل، فهو يخص بنوك هذه الدول التي تتخبط في دوامة من القروض المتعثرة و المشكوك في تسديدها تصل 30% من مجمل الأصول في عديد الدول، و تفوق ذلك في الصين. مثل هذا الخطر سبق أن جربته بعض الدول الآسيوية في الــعام 1997، عندما عصفت أزمة مزدوجة للأنظمة المصرفية و أسواق سعر صرف العملات باقتصاديات عديد الدول، بما فيها نمور آسيا quot;هونج كونجquot; و quot; كوريا الجنوبية quot;، بل وصل الأمر إلى انهيار نظام الرئيس سوهارتو في إندونيسيا برمته. و يمكن أن يحدث نفس الشيء ما لم تتخذ الدول النامية الإجراءات الضرورية بفتح قطاعها المصرفي و المالي للمنافسة و إيجاد شراكات استراتيجية لكبرى للمؤسسات المصرفية الوطنية مع البنوك الدولية الرائدة، التي لها خبرة و تجربة في مجال الإدارة و الاستثمار المالي. و هنا أيضا سوف يكون الفشل من مسؤولية الحكومات ( لدول الجنوب هذه المرة )، إذا لم تسرع باتخاذ القرارات الصعبة و الضرورية في هذا المجال.

كاتب المقال محلل ايلاف الاقتصادي، باحث أكاديمي و خبير سابق بصندوق النقد الدولي
[email protected]