دور الأحزاب الكردية؟

في ظل حالة النزيف الدموي المروع الذي يعيشه العراق والذي أدى لتشريد شعبه و توسيع مساحات الموت المجانية و العبثية، ووضع المنطقة بأسرها على حافة بركان متفجر تكون الحاجة لمراجعة الأوضاع العامة في العراق أكثر من ضرورية ويكون التأمل في الأحداث العراقية الساخنة التي ملأت الدنيا و شغلت الناس طيلة العقدين المنصرمين بمثابة فرض عين لكل ذي بصيرة يحاول الخروج برؤية و خلاصة منطقية و طبيعية لما يحدث في العراق من فواجع مؤلمة لا يبدو أي أفق حقيقي لنهايتها في ظل حالة الفشل السياسي و الفساد القيمي و الإداري و السلوكي لغالبية الأحزاب و الجماعات العاملة اليوم في الساحة السياسية في العراق و التي تمارس أخطاء كبرى لامست حدود الجرائم، و قد إستوقفتني في فصول محاكمة ( الأنفال ) وهي الحملة العسكرية العراقية لإبادة الشعب الكردي عام 1988 الذي كان عاما حاسما في مسيرة الحرب العراقية/ الإيرانية المجنونة الماراثونية وحيث توقفت تلك الحرب في آب/ أغسطس من ذلك العام بنتيجة التعادل الدموي المروع! شهادة نائب رئيس الوزراء السابق و أحد أعمدة الحكم البعثي البائد في العراق ( طارق عزيز) التي نفى خلالها مسؤولية نظامه عن تلك المجازر ملقيا مسؤوليتها المباشرة على الجانب الإيراني!! متكئا في نفيه و حججه و دفوعاته على موقف إدارة الرئيس ( ريغان ) الأميركية وقتها التي تجاهلت تلك الجريمة بل و بررتها و ألقت بالتهمة الجاهزة على إيران رغم أن الحقيقة معروفة وكانت تتلخص في كون نظام صدام وقتها يحظى بالرعاية والإهتمام بل الحماية الأميركية كجزء من مشهد سياسي شرق أوسطي كان قائما وقتذاك وهو المشهد و الموقف الذي فسره النظام العراقي بشكل خاطيء بالجملة وهو يقضم الكويت في الثاني من آب/ أغسطس 1990 و يمحوها من الخارطة متكئا على أوهام الحماية الأميركية ذاتها و تلقي الضوء الأخضر منها!! وهو ما غير صورة و شكل الصراع في الشرق الأوسط فيما بعد وغير من أولويات الملفات!! و بدل لغة الإعلام، وطبعا لا نلوم طارق عزيز في إدعاءاته لكونه يحاول تجميل صورة نظامه و إستغلال المحكمة كساحة دعاية مجانية من أجل إنقاذ رقبته بكل السبل خصوصا و أنه في وضع يائس و لن يخسر شيئا من أي أقوال يقولها!! ولكن المهم في تلك الأقوال هي أنها نشطت الذاكرة على أحداث عراقية مفجعة وجرائم وطنية كبرى أريد لملفاتها أن تظل طي النسيان رغم كل المصائب التي تضمنتها!.

قبلات ساخنة بعد حمامات الدم الشعبية....!
بعد هزيمة النظام العراقي في الكويت نهاية فبراير 1991 و من ثم الإنسحاب المفجع على طريق الموت ( المطلاع ) حصلت إنتفاضة شعبية عراقية عارمة في الجنوب و الشمال كانت بدايتها من البصرة كشرارة عفوية إمتدت لشمال العراق حيث إنتفض الأكراد أيضا وقد وضعت تلك الإنتفاضة النظام في أحرج لحظاته القاتلة التي لم يكن يتصورها، فهو لم يواجه أي تمرد سابق بحجم ما حصل، و كل التحركات المعارضة السابقة كانت محدودة و أمكن السيطرة عليها بسهولة كما حصل في مواجهات عامي 1977 و 1980 مع الحركة الإسلامية في النجف و خان النص و عموم الفرات الأوسط، كما أمكن للنظام في عام 1980 أن يضرب حزب الدعوة و منظمة العمل الإسلامي ضربات مهلكة كانت حصيلتها المباشرة تهجير عشرات الآلاف من العراقيين و رميهم على الحدود الإيرانية بذريعة أصولهم الإيرانية!! أما في ربيع 1991 فكان الأمر مختلف بالمرة بعد إنهيار قواعد و رموز السلطة العراقية في الجيش و أجهزة القمع ليهرب النظام من 14 محافظة عراقية من مجموع المحافظات الثمانية عشر و يكون خطر السقوط قاب قوسين أو أدنى قبل أن تتكفل تطمينات قوى التحالف التي فوجئت بالإنتفاضة رغم دعوتها الشعب العراقي للإنتفاض!! و كانت مفاوضات خيمة صفوان في 28/ فبراير التي مثل الجانب العراقي المهزوم فيها وزير الدفاع العراقي الأسبق الذي كان قائد فيلق وقتها ( سلطان هاشم أحمد ) و التي أعطى الجنرال الأميركي شوارسكوف وقتها موافقته على إستعمال الحكومة العراقية لطائرات الهليوكوبتر التي أستعملت في ضرب المنتفضين بكل قسوة و شراسة ووحشية في جنوب العراق بدءا من البصرة و ليس إنتهاءا بكربلاء و النجف التي شهدت مذبحة حقيقية و الحلة و الكوت و كان قادة فرق القتل الحكومية هم نفسهم قادة النظام من ( حسين كامل ) و ( عزة الدوري ) و ( طه الجزراوي) و ( علي كيمياوي) ... و غيرهم من الحزبيين كالمقبور محمد حمزة الزبيدي الذي تحول لرئيس وزراء بعد قمع تلك الإنتفاضة! و كان القمع رهيبا لدرجة أن الكلاب كانت تأكل من جثث الموتى في مدن العراق الجنوبية، المعارضة العراقية وقتها فوجئت بالإنتفاضة كما فوجيء العالم بها ولم تتمكن من فعل شيء سوى عقد مؤتمر في فندق البريستول البيروتي كان حافلا بالصراعات و الشعارات و النزاعات المعروفة حتى اليوم! و بعد أن تفرغ النظام من مدن الجنوب تفرغ لأهل الشمال وشنت قواته حرب نفسية على الأكراد قبل الحملة العسكرية تتوعدهم بالسلاح الكيمياوي الذي جربوه في حلبجة عام 1988!! فهرب مئات الآلاف من الأكراد نحو إيران و تركيا في مناظر مؤلمة صدمت العالم قبل أن يتحرك لفرض مناطق حماية و منع للطيران العراقي!! و بعد سكون الأوضاع قامت الأحزاب الكردية بمفاوضاتها المفاجئة مع النظام وزار قادتها بغداد بل و تعانقوا بالأحضان و القبلات الحارة مع قادة النظام من الذين تورطت و تلوثت أياديهم بدماء العراقيين عربا و أكرادا!! و مشهورة تلك الصور الحميمية بين قادة الأحزاب الكردية و بين صدام و رهطه وكل ذلك حصل قبل أن تجف دماء المنتفضين و قبل أن تكمل كلاب الشوارع في العراق مهمة أكل بقايا جثث العراقيين!! وقد إعترف النظام العراقي وقتها بمجازر الأنفال لعام 1988 و لكنه قلل من أعداد الضحايا بقول علي كيمياوي بأنهم في حدود المائة ألف كردي و ليس أكثر من ذلك... ياسلام على المصارحة و الشفافية!! و كان ذلك ملف موجع لم يتطرق إليه ساسة العراق اليوم!! وهو ملف مسكوت عنه! خصوصا و إن إنسحاب الإدارة العراقية من كردستان قد وفر لقادة الأحزاب الكردية موارد رزق واسعة لا تنضب كانت سببا للصراع و التناحر الدموي فيما بينها و الذي تواصل بأساليب متوحشة كانت سببا في دخول جديد لقوات صدام لكردستان و لكن بمهمة جديدة و مختلفة هذه المرة!!!.

سحق المعارضين العرب في كردستان؟
كانت النزاعات الكردية/ الكردية قد وصلت حدود كارثية مع إستمرار التقاتل بين الحزبين الرئيسيين وهما الحزب الديمقراطي بزعامة مسعود برزاني و الإتحاد الوطني بزعامة جلال طالباني وقد إستند الطرفان في نزاعهما للنظام العراقي نفسه في بعض المراحل، ففي عام 1984 مثلا دخل الإتحاد الوطني و السيد جلال طالباني في مفاوضات مع نظام صدام بعد أن خرج على المعارضة المقيمة في سوريا وقتها وعلى مقررات جبهة ( جوقد )!! وتعاونت قواته مع قوات النظام العراقي في ملاحقة قوات بارزاني!! وكانت مجزرة ( بشت آشان ) في جبل قنديل و التي ذهب ضحيتها مئات المعارضين العراقيين من العرب و الكرد و قوى اليسار العراقي خصوصا!! ( وهو ملف مطموس اليوم بالكامل)!!!!!، أما في عام 1996 فقد كرر التاريخ نفسه بصورة أشد مأساوية بعد تصاعد النزاع الكردي/ الكردي و سيطرة قوات جلال طالباني التابعة لجمهورية ( السليمانية ) على عاصمة جمهورية بارزاني ( أربيل ) وهو الأمر الذي لم يتحمله الأخير فلجأ للإحتياطي المضموم!! و هو ( النظام العراقي ) وحيث حدثت الجريمة المنسية في تاريخ العراق المعاصر و التي عايشناها جميعا في يوم 31/ 8/ 1996 و دخلت قوات الحرس الجمهوري العراقي لمدينة أربيل لمساندة قوات البارزاني و كانت مجزرة رهيبة أدت لطرد قوات طالباني حتى الحدود الإيرانية و ذبح المئات من المعارضين العراقيين العرب من قوات ( المؤتمر الوطني العراقي ) بقيادة السيد أحمد الجلبي و هروب الآخرين لقاعدة ( غوام ) الأميركية و منهم عناصر من المخابرات الأميركية!! و كانت فضيحة بجلاجل كانت ينبغي أن تكون درسا تاريخيا في الغباء السياسي و في فنون الغدر الحديثة و الميكافيلية المفرطة!! و تم نسيان دماء الضحايا الأبرياء!! بل تم طمس الملف بأسره ضمن الكثير من الأمور المطموسة و التي تعتمد أساسا على ضعف الذاكرة العراقية أمام حملات اللطم الشامل القائمة حاليا..!.
ففي التاريخ العراقي المعاصر ثمة مآسي و مصائب لم تزل طي الكتمان، تؤكد أن تاريخ الفاشية في العراق هو مزدوج المعايير و التطبيقات فليس النظام وحده من يحمل تلك الروح بل أن الفاشية و الحقد قد تغلغلت في النسيج العصبي للمجتمع العراقي و قواه السياسية و هو نسيج قائم على النفاق و الشقاق و الرقص على كل الحبال و شهوة السلطة الدموية التي لم تحترم دماء و تضحيات الأبرياء من المجهولين الذين تحولت دمائهم لوسائل رخيصة في طريق السلطة.... إنها ملفات الوجع العراقي التي ستجابهني بعواصف من الشتم و التسقيط!! و لكننا لن نستعين بقوات الناتو للرد على مراكز القوى المهيمنة بل حسبنا الله و نعم الوكيل و لا عزاء لضحايا الشعب العراقي المظلوم.

[email protected]