من القضايا التي دأب الخطاب الديني الفقهي على إثارتها فيما يتعلق بأمور العقيدة والإيمان، وهوّل من مخاطر الخروج على فهمه لهما، وصفه لكل من ينتقد الثقافة الدينية التاريخية والعادات والتقاليد النابعة عنها، أي تاريخ الدين وسننه السياسية والاقتصادية الاجتماعية، بأنه خارج عن الدين. فحسب المدرسة الفقهية التقليدية، فإن الإنسان المتدين المعتقِد بالدين الإسلامي، يجب ألا يقطع علاقته بتاريخ الدين.
والسؤال الذي يطرح هنا هو: ما هو الوصف الذي يمكن أن يُطلق على إنسان يؤمن بالله وبعقائد الدين الإسلامي، لكنه يريد أن quot;يفلترquot; أو يقطع علاقته بتاريخ الدين؟ وهل الذي يقطع أو يفلتر تلك العلاقة يمكن وفق فهم أهل السنة أن نطلق عليه بأنه سني المذهب؟ أو وفق فهم الشيعة أن نطلق عليه بأنه شيعي المذهب؟

فمن يقطع أو يفلتر علاقته بتاريخ الدين، هو في الواقع لم يقطع علاقته بالله ولا بالوحي ولا بنبي الإسلام ولا بعقائده الإيمانية الغيبية، وإنما وضع حدا لعلاقته التقليدية بالتاريخ الديني القائمة على التبعية والتقليد والخضوع لكل ما يتناقض مع واقع الحياة وتطورها وتغيّرها، لإحساسه بأن تلك العلاقة لا تتماشى مع حياته الجديدة حياة الحداثة، ولقناعته بأن هناك تعارضا وتضادا بين الإثنين، وهذا التعارض من شأنه أن يؤثر في عقيدته، وقد يمثل عائقا في طريق إيمانه، ورفعه يسهلهما ويجعل حياته أكثر سلاسة، ويبعدها عن أي تصادم تشكله تناقضات تركيب الماضي الديني التاريخي على الحاضر الحديث.
لكن المعضلة في هذا الطلاق أو الفلترة بين ما هو عقيدة وإيمان وبين تاريخ الدين، هوالسؤال التالي: ضمن أي دين ومذهب ديني سوف يصنّف صاحبه؟ فالمشكلة لا تكمن في طلاق هذا التاريخ وإيجاد رؤى وآليات عقلانية حديثة تساعد وتعين أمر الإيمان ولا تتعارض مع العقيدة، بل تكمن في المواجهة المتوقعة مع المدرسة الدينية الفقهية التقليدية وخطابها الوصائي الإقصائي الاستبدادي. فتلك المدرسة، بسلطاتها القوية والمتعددة، سوف تعمل على إلغاء حامل هذا النوع من العقيدة والإيمان وهذا الطرح من الرؤى الدينية، وتجهد لإخراجه من الدين، وتتهمه بجملة من التهم، يأتي على رأسها الارتداد، بعدما نصبّت نفسها سلطة سماوية على الأرض. ثم بعد ذلك تدّعي وتزعم وتصرخ بأعلى صوتها بأن تفسيرها الديني يحمل مقوّمات التسامح واحترام حقوق الإنسان!!! وهذا ما فعله تسامحها مع المفكر المصري نصر حامد أبو زيد حينما أقصته من الساحة المصرية، ومع المفكر الإيراني هاشم آغاجري حينما حكمت عليه بالإعدام دون أن تستطيع تنفيذ الحكم، ومع العديد من الشخصيات والمجموعات الدينية الجديدة التي تبنت رؤى دينية ترفض تقديس التاريخ الديني وتقف ضد هيمنة الفقه والفقيه على مجريات الحياة والعقيدة والإيمان.

فالإنسان الذي يعيش وسط عالم الحداثة، الإنسان الذي يرفض بنيان الحياة القديمة المستندة إلى أطر الثقافة الدينية التقليدية الغيبية القائمة على مبدأ ما هو quot;مقدّرquot; وquot;مقسومquot; بعد أن كان quot;التقديرquot; الإلهي وquot;النصيبquot; الديني يسيطران بصورة رئيسية على التفكير ويبنيان ثقافة الخرافة والخضوع وسلطة الطاعة والتبعية، الإنسان الذي يعيش وسط حياة قائمة على quot;اختيارquot; الأطر التي لابد أن يعيش تحت ظلها ولا مجال لـquot;إجبارquot; أي شخص على الخضوع أو الركوع لإطار فكري معين سواء كان دينيا تقديريا غيبيا أو كان غير ذلك، هل يستطيع هذا الإنسان أن يطلق صيحة عالية يقول فيها بأنه مسلم لكنه لا ينتمي، بل لا يمكن أن ينتمي، للمدرسة الدينية الفقهية التاريخية ولا لسلطاتها، دون أن تخرجه تلك المدرسة من الدين، ودون أن تزعزع كيانه الاجتماعي؟ إن الإجابة هي quot;لاquot; بالمطلق.

ففي كل مجال من مجالات الحياة وفي كل شأن من شؤون الإنسان، انفتح باب الاختيار على مصراعيه وتعددت مسمياته، وذلك بسبب تنوع طرق التفكّر وسقوط السلطات المانعة للتفكير والمناهضة للاختيار. وهذا الأمر لم يكن لينشأ لولا سقوط امبراطورية quot;التقديرquot; الدينية المهيمنة على الحياة، والتي كانت تستند في تفكيرها وحل الأمور والقضايا والمشكلات إلى رجل الدين الفقيه صاحب التفسير المستند إلى الغيبيات الدينية التي ترفض بروز منهج الاختيار، لأنه لا يرضى إلا بوجود نفسه ومنهجه، حيث مناهج التفكير الأخرى مجرد quot;خزعبلاتquot; تتحدى سلطته الدينية، وحيث لايرضى للإنسان إلا أن يتبعه ويقلده ويأتمر بسلطته وبأوامره.

ففي الماضي كانت مسؤولية الإنسان التبعية للسلطات التي كانت تتحكم في الحياة، ومنها سلطة رجل الدين، وهو أمر لا يزال مستمرا في العالمين العربي والإسلامي. أما في وقتنا الراهن فإن الاختيار هو الذي طغى على الحياة، وهو لا يمكن أن يتعايش مع سلطة الطاعة والتبعية التي فرضها الفقه والفقيه، بل هو في الضد لهما ومتناقض معهما.
إن الإنسان المتديّن المنتمي للمدرسة الدينية الفقهية التقليدية، لا يمكنه أن يقبل الحداثة بالمطلق، كما لا يمكنه أن يرفضها بالمطلق. فلايمكن أن يرفضها بالمطلق لأنه يعيش وسط الحياة الحديثة ويتفاعل معها ومع منجزاتها، وإذا قرر أن يرفضها بالمطلق فكأنه قد قرر أن يرفض نفسه ووجوده. كما لايمكن أن يقبل الحداثة بالمطلق، لأن ذلك يتعارض مع أسس مدرسته الدينية الفقهية التاريخية وبنيانها القائم على تقديس الطاعة والتبعية للسلطة الدينية وللتاريخ الديني وللفكر التقديري، وهي أسس رفضتها الحداثة واستبدلتها بمبدأ اختيار أسس الحياة، وهو المبدأ الذي يقف في الضد من التبعية والخرافة والخضوع.

فالإنسان الذي لا تختلف رؤيته للقرآن الكريم، ككتاب حياة وفكر واجتماع، عن رؤيته لأي كتاب فكري آخر سواء كان هذا الكتاب لإفلاطون أو لشكسبير أو لفولتير، وهو المبدأ الخاضع لأسس الاختيار، هل تستطيع المدرسة الدينية الفقهية التقليدية التاريخية بخطابها الغيبي السلطوي الإلغائي أن تطلق عليه وصف quot;مسلمquot;؟ إن ذلك لايمكن أن يتحقق من دون أن تغيّر هذه المدرسة أسسها الفكرية التاريخية وخطابها القائم على الطاعة والتبعية.

كاتب كويتي
[email protected]