لا حاجة الى كثير من اللف والدوران. كلّ ما في الأمر أن أحداثا خطيرة يشهدها لبنان في هذه المرحلة لتترافق مع الذكرى الثانية لأنسحاب القوات السورية من أراضيه. يبدو أن النظام السوري يريد الأحتفال بالذكرى على طريقته عبر مزيد من الأنتقام من لبنان واللبنانيين. أنّه يريد تذكيرهم بأنّه أخترع عمليات الخطف في لبنان وأنّه الوحيد القادر على وقفها... شرط خضوع البلد وأهله له. يريد النظام السوري بأختصار شديد أظهار أن لبنان لن يرى الأمن يوماً ما دامت قواته وأجهزته خارج أراضيه. وما يزيد، في أيامنا هذه، من أصراره على أفتعال أحداث من نوع الحادث الخطير المتمثل في خطف شابين من الطائفة السنّية في بيروت وقتلهما من أجل خلق فتنة مذهبية، فشل الجهود التي بذلها لمنع قيام المحكمة ذات الطابع الدولي.
لا يمكن فهم التصرّفات السورية في لبنان ألاّ من خلال النيّة الدولية بانشاء المحكمة، أضافة بالطبع ألى التفكير المريض لدى النظام السوري والقائم على فكرة الأنتقام من لبنان واللبنانيين. وهذا يدفع مرة أخرى ألى التساؤل : من يخشى المحكمة ذات الطابع الدولي التي ستنظر في قضية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري والشهداء الآخرين الذين أمتدت اليهم يد الغدر؟ من يخشى المحكمة التي يفترض أن يمثل أمامها المتهمون بالجرائم التي شهدها لبنان بدءاً بمحاولة أغتيال الوزير مروان حماده مروراً بأغتيال الزميل والحبيب سمير قصير وأنتهاء ببيار أمين الجميل الوزير والنائب وقبل أي شيء آخر رمز تمسك الشباب اللبناني بأرضه ورفضه الهجرة، مروراً بالمناضل العربي جورج حاوي والزميل جبران تويني الذي كتب بدمه وثيقة الأستقلال الثاني؟
من يخشى المحكمة هو ذلك الطرف الذي يحاول زعزعة الوضع الداخلي في لبنان عن طريق أستخدام أدواته لخلق فتنة مذهبية أكتشف انّها سترتد عليه وعلى حليفه الأيراني، فلجأ ألى عملية الخطف الأخيرة وقبل ذلك الى تشجيع الأعتصام في وسط بيروت لتأكيد أن البلد لن تقوم له قيامة مستكملاً بذلك الحرب الأسرائيلية المدمّرة التي أستهدفت لبنان. يفعل ذلك من أجل الحؤول دون أنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي التي ستقتص من المجرمين الذين لم يدركوا بعد، وربّما لن يدركوا يوماً، أن الظروف الأقليمية والدولية واللبنانية تغيّرت وأن أغتيال رفيق الحريري لن يمر على غرار الجرائم الضخمة التي شهدها لبنان منذ أغتيال كمال جنبلاط في العام 1977 . مرّت تلك الجرائم التي شملت اغتيال رئيسين منتخبين لجمهورية هما بشير الجميّل ورينيه معوّض مرور الكرام. كان هناك أستعداد دولي لتغطية المنفذّين خصوصاً أن لبنان كان متروكاً تحت الوصاية السورية ومتروكاً quot;ساحةquot; للنظام السوري يصفّي فيها حساباته مع الآخرين، معتقداً أنّ وجوده في لبنان سيسمح له بلعب دور أقليمي على كلّ الصعد.
ولّى الزمن الذي كان فيه النظام السوري لاعباً أقليمياً يشتري ويبيع في كلّ ألأتجاهات. وبكلام أوضح، دخل الشرق الأوسط مرحلة جديدة يتوجب فيها على كلّ دولة معرفة حجمها الحقيقي. لا يكفي أن يدعي النظام السوري أنّه لاعب أساسي في العراق، كي تقتنع الأدارة ألأميركية بأن عليها الأستعانة به من أجل الخروج من المأزق الذي أوجدته لنفسها. في النهاية، يستطيع النظام السوري التخريب في العراق. لكنه لا يستطيع لعب دور عامل الأستقرار في البلد الجار الذي تكفّل الغباء السياسي الأميركي بأدخاله في آتون الحرب الأهلية. أذا لم تكن الأحداث التي يشهدها العراق عموماً وبغداد خصوصاً دليلاً على أستعار الحرب الأهلية، فما هي أذاً الحرب الأهلية وما هو التفسير الآخر المتعارف عليه للحرب الأهلية؟
ليس أمام النظام السوري سوى القبول بالمحكمة ذات الطابع الدولي. أن تهديداته بأفتعال حرب أهلية في لبنان لا تنفع. أنّه اضعف بكثير مما يعتقد. أكثر من ذلك أن أدواته اللبنانية باتت مُستنفدة حتى لو نفّذت بدرجة عالية من الأحتراف عملية خطف لمواطنين سنّيين محسوبين على الحزب الأشتراكي الذي يتزعمه السيّد وليد جنبلاط. بأختصار شديد، أن رئيس الجمهورية أميل لحّود الممدة ولايته تحت التهديد لا يستطيع تشكيل حكومة أخرى ألى جانب الحكومة الشرعية التي يرأسها الرئيس فؤاد السنيورة. أما quot;حزب اللهquot;، الحزب المذهبي، الذي يكتشف اللبنانيون يومياً افضاله عليهم عبر تعطيل الحياة وسط بيروت أنتقاماً من كلّ ما يمت للحضارة بصلة، فهو متردد في دخول حرب ذات طابع مذهبي. أفلس quot;حزب اللهquot;سياسياً ولبنانياً عندما تبيّن له أن في أستطاعته أحتلال بيروت عسكرياً، لكن ثمة ثمناً لمثل هذا العمل يتمثل في الدخول في مواجهة مع كلّ الطوائف الأخرى على رأسها السنة. أنتهى quot;حزب اللهquot; عندما وجّه سلاحه ألى اللبنانيين الآخرين وألى قلب لبنان، اي ألى وسط عاصمته. أنتهى أيضاً عندما لم تعد أداوته المستأجرة على رأسها النائب ميشال عون قادرة على النزول ألى الشارع لممارسة التخريب في المناطق المسيحية. كلّ ما في أستطاعة هذه الأدوات عمله الأنضمام ألى عملية نشر البؤس في بيروت عن طريق أبقاء المخيم الذي يهدد العيش المشترك بين اللبنانيين والذي يساعد في هجرة الشباب اللبناني من بلده...
لأن الأدوات اللبنانية أفلست، أفلست سياسياً وليس مالياً بالطبع، صار النظام السوري في وضع صعب. والوضع الصعب، الذي هو فيه، جعله يذكر اللبنانيين بالحرب الأهلية عن طريق قتل الشابين المخطوفين في الذكرى الثانية للأنسحاب العسكري من لبنان. قد لا يكتفي بجريمة قتل الشابين التي نفّذت على الأرجح بأيد لبنانية وتحت ستار وجود عائلة لبنانية تريد الثأر لأحد أبنائها. نعم قد لا يكتفي بذلك، بل يمكن أن يلجأ ألى ارتكاب جريمة أخرى أشدّ فظاعة تندرج في سياق سلسلة الجرائم التي أرتكبها في لبنان منذ بدأ بأرسال الأسلحة ألى المنظمات الفلسطينية في بداية السبعينات. أن الخوف، كلّ الخوف، من عمل مجنون يستهدف الحكومة اللبنانية نظراً ألى أنّها مرجعية المحكمة الدولية. أنّه نظام بائس ويائس في آن غير قادر على أستيعاب معنى فشله في تنظيم أنتخابات نيابية يقبل المواطن العادي المشاركة فيها. يمكن لهذا النظام أن يقدم على مغامرة جديدة خالطاً مرة اخرى بين السياسة والمقامرة. لذلك يفترض في اللبنانيين أعتماد الحذر الشديد في هذه الأيام الصعبة التي يقترب فيها موعد الأعلان عن قيام المحكمة ذات الطابع الدولي. أنها المحكمة التي ستأتي لتؤكد أن لا جرائم من دون عقاب بعد الآن في لبنان، وأن جريمة أغتيال رفيق الحريري في حجم جريمة أحتلال صدّام حسين للكويت!
دخل لبنان دائرة الخطر الشديد مجدداً. وسيكون في عين العاصفة خلال اليام والأسابيع المقبلة، أي مع اقتراب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من أقرار تشكيل المحكمة ذات الطابع الدولي. لبنان يعيش الآن حرباً أهلية على نار هادئة. من الواضح متى راقبنا حال الغليان التي بدأت تعيشها بيروت ومناطق أخرى أن العودة ألى الأيام السود، أيام الحرب الأهلية وحرب الآخرين على أرض لبنان، لم تعد مستبعدة في ظلّ وجود من يخشى المحكمة ذات الطابع الدولي والأستعداد لعمل كلّ شيء من أجل نسفها. حتى لو أدى ذلك ألى نسف لبنان...