إن الهدف من المدرسة وهي الوظيفة الأساسية التي أنشأت من أجلها هي ضمان تربية وتعليم متساوي للجميع بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها التلميذ،
وليس كمؤسسة اجتماعية لا تختار تلقين إلا الذين يستجيبون للمقاييس التي يحددها مسبقا ويصادق عليها الضابط الاجتماعي.الجزء الأول
والمدرسة التي اعتبرت لزمن طويل ميكانيزم مصحح لعدم تكافؤ الفرص منذ نشأتها، تظهر الآن غير قادرة على لعب هذا الدور المنوط بها، وبتعبير التوسير أن الأجهزة الإيديولوجية للدولة تعيد إنتاج تقارير الإنتاج السائد. والمدرسة أصبحت جهاز الدولة الإيديولوجي المهيمن مكان الكنيسة التي مارست هذا الدور إلى حدود القرن الثامن عشر.
وحول دورها في الحراك الاجتماعي يرى العربي أبا عقيل إن الجيل الثاني اعتقد كثيرا أن الطريقة الوحيدة للتدرج الطبقي وضمان ظروف حياتية أحسن هو الإنجاب الكثير. إلا أن هذا الخيال الذي هيمن على الطبقات الشعبية باء بالفشل، فقط 0,88 % تم التحاقهم بالطبقة المتوسطة، وأن نسبة الحراك الاجتماعي التي سادت السبعينات تفوق بكثير ما كانت عليه في البداية الثمانينات. وهذا دليل على أن المدرسة لم تلعب ذلك الدور الذي اعتقده الجيل الثاني كمصدر لتغيير المواقع الاجتماعية، هاته المواقع لا تحصل إلا بعد مستوى ثقافي وتكويني، ولكن لا يمكن الحديث عن حراك اجتماعي إلا حين يحصل فيها الفرد على موقعه الاجتماعي والذي يمكن مقارنته بوضع أبيه.
وفي إطار النظريات الوظيفية يتحدث سوروكين عن كون كل مجتمع يحوي مجموعة من الميكانيزمات للإنتاج وإعادة إنتاج البنى الاجتماعية للأفراد، ويرى أن الأسرة كأحد دعائم التوجيه ومن أجل إستمراريتها في الزمن فهي المسئولة عن الحراك الاجتماعية للأفراد، لكون هذا الحراك المتعدد الاتجاهات يهدف إلى إضعاف الاستمرارية الأسرية،فالأسرة إذن تهدف إلى منح الطفل مستوى من الطموح الدراسي محدد بموقعه الخاص، وشدة مراقبة الأسرة مرتبطة بالنسق الاجتماعي، فهي قصوى المجتمعات التقليدية، بينما بدأت تضعف في المجتمعات الحديثة لتوجه الأسرة نحو النظام النووي ويضيف بارسونز بارسونز أن الأسرة تلعب دورا أساسيا في صيرورة جيل عدم تكافؤ الفرص، والأسرة تتضمن نسقا تضامنيا، والعائلة هكذا لا يمكن أن لا يكون لها تأثير هام على الطموحات المدرسية للأطفال، وهكذا فالميكانيزمات الشاملة لعدم تكافؤ الفرص أمام التعليم أقل ارتباطا بمستويات النسق الاجتماعي في كليته. وأكثر ارتباطا على مستوى محيط الفرد، ولهذا يلجأ معظم السوسيولوجيين إلى تحليل تأثير المحيط على المحفزات الفردية.
إن اللامساواة في الحظوظ الملاحظ من خلال النتائج الدراسية أو على المستوى المدرسي بصفة عامة، يرجع بالأساس إلى العادات، القيمة المعطاة للعلم، الرأسمال الثقافي، الحالة العائلية، الاستقرار الأسري... وهاته القيم تختلف من طبقة إلى أخرى حسب الظروف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للأسرة وللمجتمع عموما.
وحسب المجتمعات، وأثناء نموها، فإن دور الأسرة والمدرسة أقل أو أكثر أهمية، وحسب سوروكين دائما فإن دور المدرسة يزداد حينما يقل دور الأسرة، وحين يتوقف دور كليهما وبطريقة فجائية عن أداء دورهما في توجيه الأفراد نحو بنى اجتماعية، تظهر حركات نقدية احتجاجية لتغيير هاته البنى. وهو ما ترجمته انتفاضة طلاب فرنسا في مايو 1968، حيث تم نقد المجتمع بطريقة عنيفة، وقد رأى المحتجون في باريس، أن التربية الحالية هي عبد الرأسمالية، وان الجامعة لا تقوم سوى بتوزيع معارف موجهة مسبقا لإعادة إنتاج المبجل البورجوازي ، نفس الشيء عبر عنه المحتجون في بكين ، بكون التربية لا تخلق إلا الفوارق الاجتماعية وتعمل على تكوين المتفوقين البورجوازيين فالتربية تبعا لذلك تسهر على توزيع الحظوظ ولا تعمل على تساويها.
ولكن حين نتحدث عن وظيفة إعادة الإنتاج الاجتماعي للتربية، ودورها في التقدم الثقافي، فهي تساهم في خلق نقد مضاد، فالتعليم ليس دائما وبصفة مطلقة إيديولوجية أو سلطة الطبقة السائدة، ولكن نجاعته تشتق من منطقة الخاص وحرية الأفراد. وردا على أولئك الذين لا يحملون إلا كلمة إيديولوجيا في أفواههم، فالمدرسة هي أيضا منبع العلم، وتلقين العلم يكون ويؤدي إلى ظهور النقد، الذي قد يكون ضد التعليم نفسه.
والهدف المنشود من التربية الحديثة هو ضمان فرص تربوية متساوية للجميع، من أجل تربية فعالة تتيح للناشئة ضمان اندماج لائق وعادي في المجتمع، إلا أن المدرسة كما يرى ذلك اليتش تاريخيا وبغض النظر عن مكانها لا يمكن أن تمثل العامل الأحسن والأوحد للتربية، والفكرة السائدة لدى الجميع بأن التربية تقوم في معظمها على أساس التعليم فكرة خاطئة، ويتساءل اليتش أليس هناك دور للحياة خارج المدرسة؟
إن التربية الحديثة اليوم تقوم على تكامل الفاعلين الاجتماعيين، بين الأسرة والمدرسة والمجتمع ولكي يصل المجتمع إلى نضجه، ويتجاوز طفولته ذاتها، يجب أن يصبح قابلا لأن يعيش فيه الصغار، والتربية الحديثة التي نريدها في مجتمع أكثر تطورا، هي تلك التي تتجاوز التربية التقليدية المبنية على التلقين، أي تقدم التربية على التعليم. من أجل أطفال مكونين تكوينا متكاملا ومتسقا، بحيث لا يغدو أكثر علما ومعرفة فقط بل أكثر نموا وتفتحا وقدرة على التفكير والإبداع وأكثر امتلاكا لوسائل التعليم أكثر من امتلاكه لمعلومات محددة. وهو ما عبر عنه جون جاك روسو حين أراد خلق الإنسان القابل للتعلم وليس الإنسان المتعلم. فالتربية الحديثة تهدف إلى تربية الشخصية لدى الطفل من كل نواحيها، وخصوصا الإنسانية. إن التعلم في فرنسا Instruire مشتقة من Struere اللاتينية وتعني التكوين والتكديس، وهو تكديس المعلومات في الفكر، في مفهومه الضيق، أما عمل التربية فأنفذ وأعمق ف Ducere اللاتينية تعني أن نخرج من الطفل جميع ضروب الغنى الكامنة فيه، ونظهرها بعد خفاء ونفتحها حتى مداها، ونساعد الطفل ليكون quot;من هوquot; على حد تعبير نيتشه.
باحث سوسيولوجي- فرنسا
التعليقات