ليست لي تجارب ذات شأن مع الأديان. إن هي إلا بضع سنوات، في مطالع الشباب، كنت فيها أقرب إلى الصوفي مني إلى المتدين، ثم غادرت هذه المنطقة سريعاً إلى فضاء الثقافة. أقصد معاقرة الفنون والآداب والفلسفة على نحو خاص.الآن، وأنا أنظر إلى الوراء، لأستجلي وأستخلص بعض العبر، أستطيع القول دون ادعاء، بأنني حسناً فعلت في ماضي حياتي: حسناً أنني خرجت من منطقة الدين إلى منطقة الأدب والفلسفة. وحسناً بل لعلّه الأحسن بإطلاق: أنني غادرت الضيِّقَ سريعاً، لأرتمي في أحضان الواسع.

لم يرشدني أحد. ولا كان لي أب فكري أو روحي يضع لي الصوى في الطريق. بل سلّمت نفسي لقلبي وعقلي الشخصيين، فانغمست في معمعان الكشف الذاتي، مندغماً في الحيرة والتوهان طوراً، وتارةً في النشوة والانخطاف.عرفت مبكراً، وعلى جلدي كما يقال، بأنّ الأديان، مطلق الأديان، لا غاية لها سوى أن تربطك ب [ إله ]. فإن ارتبطت به، سترتبط بكل نواهيه، وبكل ما له وما عليه، حتى يضيق عقلك وتضيق روحك، ويضيق نفَسك في الأخير. بينما في المقابل، تعطيك الثقافة، بما هي أدب وفلسفة وموسيقى وأفكار وجدل واستبطان واستمتاع بالتنوع والاختلاف ( أي بما هي أبهى وأعمق منتوج بشري ) تعطيكَ فكرةَ [ المطلق ]. وهي لا غرو فكرة أوسع وأعلى وأسمى من فكرة [ الإله ] أو فكرة الدين.

في quot; المطلق quot; أنت تلتقي إنسانيتك وكونيتك كأبهى ما يكون اللقاء. أما في quot; الدين quot; فأنت تلتقي إلهَ دينك على الأخص: الإله الذي تؤمن به جماعتك أو شعبك أو أمتك. وهو بالطبع، ليس ذاته عند الآخرين من الجماعات أو الأمم الأخرى. فثمة في الواقع وفي النصوص، أكثر من دين وأكثر من إله. وربما يختلف الله في الإسلام، مثلاً، عن الإله في المسيحية أو اليهودية. وهنا تكمن مشكلة كبرى: فإن أنت ارتبطت بإله، فأي إله هو؟ ما صفاته ما حيثياته؟ وهل يحق لك أن تعممه على كل البشر؟ إنّ ثمة آلهة كثيرة ولا يوجد إله واحد. بينما في المقابل، ثمة [ مطلق ] إنساني ميتافيزيقي، ليس مطلوباً منه أصلاً، أن يكون واحداً. بل هو مطلقات في مطلق. مطلق يناسب أرواحنا كبشر فانين مختلفين غير متضخمين بفكرة خلود الروح أو الجسد.

قد يكون الإله السماوي اسماً من أسماء المطلق. قد يكون جزءاً من المطلق. لكنه أبداً لن يكون هو. فالمطلق واسع وغير محصور في دين معيّن. بينما الإله محصور ومحدد، على نحو شبه واضح، في الثلاثة أديان. وبما أنّ حاجة البشر للمطلق، هي حاجة أبدية وأصيلة [ بمعنى غير مدّعاة وليست للديكور النفسي والروحي ]، فإنّ سعيهم لهذه الحاجة السامية، جد مُبرّر وجد طبيعي. منذ وجود quot; الإنسان العاقل quot; على الأرض وحتى فناء الحياة منها ذات مستقبل.

لذلك، كل واحد منا، يبحث عن مطلقه الخاص. طبعاً غالبيتنا، بم هم القطيع، وجدت ضالتها في الأديان. لكن ثمة استثناء لكل قاعدة وظيفته أن يؤكدها لا أن ينفيها. ثمة من لا يكتفون بهذا الصنيع، وثمة من لا تُروى أرواحهم بالقليل. لذلك يتنكّبون مشاق الطريق وحدهم، على أمل أن يجدوا مطلقهم الخاص بهم في نهاية أو وسط أو بداية الرحلة. بل إنّ ثمة من يكتفي بالسفر كمطلق، ولا يهمّه الوصول. فالطريق إلى البيت أجمل من البيت ذاته، كما يخبرنا بذلك كبار المتأملين على مرّ التاريخ.

إني أعرف أناساً وجدوا مطلقهم الأرضي [ الذي هو بالمناسبة مطلق نسبوي ] في الموسيقى الغربية. غيرهم وجده في الفلسفة. بعضهم وجده في كليهما مضافةً إليه الفنون كلها أو بعضها. أما البعض منهم فقد وجده في العقل والتجريد العقلي. وسواهم وجده في الحب. ما علينا. المهم أن تجد مطلقك في الأخير. والأهم أن تكون حراً في اختيار مطلقك. دون أوامر ونواه، ودون وصاية مؤسسات، ودون حتمية الدخول في قفص أو قالب، من هذا الطرف الديني أو ذاك.

إنني مثلاً، قد وجدت مطلقي تحت أفياء شجرة الفن الخالدة. ومطلقي هو: الحق والخير والجمال. هذه الأقانيم الثلاثة التي لا تزول ولا تدول. منذ اكتشفها أولُ متفلسف يوناني كان يتلعثم فلسفةً وحيرةً، وحتى آخر كائن سيحيا على هذه الأرض.

الحق والخير والجمال. ربما تكون هي الأضلاع الثلاثة لمثلث الله، وربما لا. لا يهم. المهم أنني وجدتها. وجدتها في الموسيقى وفي الأدب. وجدتها في الفلسفة. كذا في الصمت. كذا في الليل الموغل. كذا في تأمل الطبيعة. كذا في جمال المرأة، وكذلك في بعض ما كتبَ وعزفَ وتلوّعَ ونزفَ بعضٌ من أعظم بشريينا الرّائين.ويكفيني هذا. يكفيني لأنام مرتاح الضمير، راضياً بما تحت يديّ، وراغباً دائماً في مساعدة الكائنات، فإن لم أستطع لسبب من الأسباب، فلا أقل من ألّا ألحق بهم أي نوع من الأذى.إنهم، بكلمة جامعة، أخوتي وشركائي في وحدة الوجود وبهجة الوجود ومحنة الوجود. من البشر إلى الحيوانات إلى الحجر إلى النبات.أتمنى لهم جميعاً، الحق والخير والجمال.تماماً كما أتمنى ذلك لنفسي.