quot; بدل أن أكون ذلك الشخص الذي منه يأتي الخطاب أفضل أن أكون فجوة رهيفة في مجراه العرضي ونقطة اختفائه الممكنةquot; ميشيل فوكو

ماهو في غاية الوضوح وما لا يحتاج إلى برهان أن الخطاب الآن في حضارة اقرأ ممزق ومخترق ويخبط خبط عشواء ولا يدري أن يذهب وعما يتكلم ومن يخاطب وأين يتموقع ومن يبجل ومن يذم ومن يبخس ونحن أيضا لا نعلم من يملك ناصيته وعلى من يسيطر ومن يأتي وفي كلمة انه خطاب مشتت أو قدوم عصر اللاخطاب لأنه قد نسمع كلاما أو صراخا أو عويلا أو أصوات استغاثة من حشود تطلب النجدة ولكن قلما أنصتنا إلى خطاب متكامل يحكمه نظام ويخضع إلى منطق ويتضمن مقاصد ويخفي استراتيجيا، قد يتكلم الرؤساء في الأعياد والمناسبات الوطنية ولكن كلامهم لم يعد في مستوى الخطاب السياسي بالمعنى الحقيقي للكلمة لأنه مجرد تطمينات و إعلان نوايا وبرمجة وعود قد لا تترجم على مستوى الواقع وبالتالي فان خطبهم هي معدة للاستهلاك المحلي من أجل الترهيب والتخويف ومبرمجة لإعطاء رسائل دبلوماسية هادئة بالنسبة للعالم الخارجي من أجل الترحيب وترغيب رأس المال الاستثماري وتعبر هذه الخطب المكتوبة في القصور عن تردد وضبابية وفقدان بوصلة وملامسة خجولة للواقع وغياب العمق في التحليل وتعثر في معالجة المشاكل المستعصية بالنسبة للشعوب وعلى رأي أحدهم لم تعد القضايا الكبرى مثل الصراع العربي الإسرائيلي انشغالهم الأول بل همهم الأكبر هو المحافظة على السلطة باستعمال كل الوسائل والغاية تبرر الوسيلة. إذا انتقلنا إلى المجال الأخلاقي الديني فان هذا الخطاب الدعوي يشهد إقبالا لا نظير له ورواجا كبيرا على الصعيد الإعلامي مع ثورة الاتصالات وتكاثر الفضائيات المهتمة بهذا الشأن وبروز فقهاء متلفزين ورجال دين تحديثيين في مستوى اللباس ولكن إذا تعمقنا مليا في مضمون هذا الخطاب نجده يعاني من فقر كبير ويكرر نفس المادة التقليدية وبعيد كل البعد عن روح العصر ومبني على أسس واهية ويستمد سلطته من نفوذ الأمس الأبدي وليس من قدرته على طرح أسئلة الواقع على بساط الدرس ويمكن أن نفسر هذا الإقبال المتزايد عليه وهذا الانتشار الواسع أنه دليل على إفلاسه ويؤذن بقرب نهايته لأنه يحترم على مستوى الشكل والمظهر الخارجي والقواعد العامة ولا أحد يتمسك به على مستوى المضمون والمبدأ والدليل على ذلك هو تكاثر الفساد والأمراض والتفسخ في البلدان العربية وكثرة الكلام البذيء وتصاعد أرقام الجريمة والسرقات والرشاوى على الرغم من العودة الكاسحة من قبل الأغلبية الصامتة إلى الدين والأخلاق، فهل نكتفي بطلب المغفرة لهم أم أن ذلك مظهر من مظاهر حالة سوء النية والبون الشاسع بين الفكر والقول والفعل؟
إن الخطاب الديني الأخلاقي هو خطاب دعوي مثالي يركز على الينبغيات وما يجب أن يكون ولا يربط ذلك بما هو كائن وما يقدر عليه الانسان ويتناسى في ذلك روح الآية الكريمة:quot;لا يكلف الله نفسا إلا وسعهاquot; وبعض ما يقال على منبر المساجد في خطبة الجمعة هو مراقب ومنتقي ويخدم أغراضا ضيقة ويعاني من العديد من المزالق أهمها وقوعه في الدغمائية واعتقاده أن ما يقوله هو روح القرآن وجوهر الدين وأس القيم بينما فاته أن ذلك مجرد اجتهاد بشري وأن البشر قليل ما يصيبون وكثيرا ما يخطئون، المزلق الثاني هو غياب التفكير وقلة إعمال العقل والاجتهاد والاكتفاء بالنقل والاجترار للمدونة الفقهية التراثية والتركيز على علماء عصور الانحطاط الذين ركزوا على نقاط الاتفاق وإهمال علماء عصور الازدهار والذين كشفوا عن عدة قضايا خلافية وآراء كلامية لا يحسم الخلاف حولها إلا باجتهاد عقلي بشري يمكن نسخه وتغييره إذا تغيرت العصور والظروف، المزلق الثالث هو تغليب الروح المذهبية والانتصار إلى منطق الفرق والملل والنحل والإبقاء على التناقض والخلاف والاعتراض على كل تقريب أو الرغبة في التجاوز والتوحيد وبالتالي هناك خطاب سني وخطاب شيعي وهناك خطاب سلفي وخطاب تنويري والكل يدعي أنه يمثل الدين الحق،المزلق الرابع هو الخلط بين انتماء الناس إلى الإسلام وانتماء الأحزاب التي جعلت من الإسلام مرجعية ايديولوجية وعدم التمييز هذا بين الإسلام والإسلام السياسي جعل البعض يهاجم الخطاب الإسلامي برمته عندما يريد أن يرد على الإسلاميين المتحزبين ويحذر من الاسلاموفوبيا والإرهاب ويعقد الوضعية ويزيد من ضبابية المشهد وعدم امتلاك هؤلاء خطابا واضحا متماسكا.
الخطاب الثالث الذي أصيب بالعدوى وفقد توازنه الإبستيمولوجي وابتعد عن لياقته الأكاديمية هو الخطاب العلمي والتربوي، فالجامعات العربية اليوم هي وكر للمحافظين الجدد الذين يخدمون مشاريع غير علمية وهم متحالفون في ذلك مع السلطات الحاكمة ودوائر الفساد والخطاب الذي يقع إنتاجه يعاني بدوره من قلة النظر وضعف الذاكرة وغياب الرؤية الإستراتيجية بل إن البرامج التي يقع تدريسها تملي من صندوق النقد الدولي وتضعف من مشاعر الاعتزاز بالوطن والثقافة المحلية وتمنع الطلاب من إبراز مقدراتهم وتفجير طاقاتهم ولذلك تراهم يفضلون الهجرة أو الانقطاع عن التعلم لانسداد الأفاق وتكاثر نسبة البطالة بعد التخرج وقلة خبرتهم في مجال تخصصهم، إن الخطاب الذي يقع تعليمه الآن في حضارة اقرأ خطاب ضعيف يعكس انتشار الوصولية والمحسوبية وسيطرة الذرائعية والعقل الحسابي وكوجيطو البضاعة ومبدأ المردود على كل السلوكيات البشرية وبالتالي يزيد من تعميق أزمة المؤسسة التربوية وبعد الجامعة عن المجتمع. لكن لماذا كان الأمر على هذه الحالة؟ كيف نفسر غياب الخطاب عن حضارة اشتهرت بالخطاب؟ ما سبب عزوف أمة اقرأ عن القراءة؟
الخطاب اليوم سواء في السياسة أو التربية أو الدين لا يصدر عن زعماء ولا عن رموز فهو خال من الجرأة على الواقع أي من النقد والتفكر وبالتالي فهو خطاب مهادن ومقتضب لا يتضمن فكرة ناظمة وهو خطاب موجه إلى الموتى وليس إلى الأحياء ولا يطرح الأسئلة التالية: ما الذي يجعل من الماضي أمرا مفهوما؟ لماذا لا نشرع في نقد الحاضر وتفكيك بناه وآلياته؟ كيف نصنع المستقبل؟
مأزق هذا الخطاب أنه يعلن النهاية في اللحظة التي كان من المفروض أن يدشن فيها البداية أو لنقل يطرح المبادرة التي هي في الأصل مبادأة، وخطؤه أنه يعلن نهاية التأسيس بالسقوط في تأسيس النهاية والتبشير بالقطيعة الكارثية وموت جميع المطلقات بما فيها الله والعالم والإنسان لكن إن كان حلم الريادة والتأسيس قد أدى بالإنسانية إلى الهاوية وجلب الدمار بالنسبة للحياة على الأرض ألا يمكن أن نعاود على الأقل تأسيس البداية؟ بعبارة أخرى ألا ينبغي اليوم أن ننخرط في مشروع العود على بدء طالما أن جميع الخطابات استهلكت وكل البدائل أفلست؟ لكن إلى أي مدى يقدر أن يكون خطاب البداية خطابا واضحا وشافيا بحذف جميع ما سبق؟ لننصت إلى فوكو ماذا يقول عن علاقته المطلوبة بنظام الخطاب:quot; لا أريد أن أقحم نفسي في هذا النظام الشائك للخطاب...أريده من حولي شفافية هادئة...من خلالها يمكن للآخرين أن يردوا على انتظاري ومن خلالها أيضا يمكن للحقائق أن تشرق واحدة بعد الأخرىquot;. إذا أردنا لحضارة اقرأ أن تستأنف سبيلها نحو المدنية فلابد أن تعيد امتلاك هذا الخطاب الذي لا يستبد بصاحبه ولا يحمله إلى فيافي الصحراء وغياهب جنون السلطة، وبعبارة أخرى إذا أردنا للشبيبة الناشئة الأبية أن تفرض سلطتها على المستقبل فلابد أن تمتلك قبل كل شيء سلطة الخطاب وأن توقف نزيف تدحرج مستوى الكلام وأن تشرع في انتاج خطاب مقاوم مضاد للعنف والميوعة والدغمائية ويرد على التحديات ويطرح رهانات المستقبل. ينبغي للعرب أن يفهموا أن زمن الخطابات قد ولى وانتهى وحل محله زمن الأفعال والتخطيط الاستراتيجي حتى تصدر أقوالنا عن رؤية شاملة للعالم وتندرج مواقفنا ضمن خطة سيادية مستقبلية، فماهي الثوابت التي لا يجوز للخطاب العربي أن يشتتها من مفكرته؟

المرجع:
ميشيل فوكو جنيالوجيا المعرفة ترجمة عبد السلام بنعبد العالي وأحمد السطاتي دار توبقال للنشر الدار البيضاء المغرب الطبعة الأولى 1988 ص5/6

* كاتب فلسفي

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية