ما هو التاريخ (1/3)
التاريخ.. هو الماضي، هو كل ما حصل قبل اللحظة التي كتبت فيها هذه الكلمات، بل قبل اللحظة التي تقرأ فيها عزيزي القارئ هذه الكلمات، فحتى كتابي هذا أصبح الآن جزءاً من الماضي، جزءاً من التاريخ.. فما الذي يعنيه هذا؟
إنه يعني أن الفاصل ما بين الحاضر وتاريخه ما هو إلا فاصل وهمي، فما يكاد الحدث يظهر إلى الوجود حتى تطويه سجلات التاريخ بين سطورها إلى غير رجعة، ومادام الحاضر هو حياتنا الفعلية، ومادام يتسرب من بين أيدينا بهذه السهولة ليغدو جزءاً من الماضي.. من التاريخ.. فلا غرابة إذاً أن يهتم الإنسان بتاريخه، ويحرص على تدوينه ليرجع إليه بين الفينة والفينة، ربما ليستعيد لحظات حياته الهاربة ويوهم نفسه بالاستمرارية والخلود!
وللتاريخ وقع خاص في مشاعرنا، فإن كلاً منا يحس بالحنين إلى الماضي، ونتمنى من أعماقنا لو عادت بنا الحياة إلى أفياء الأيام الخوالي، ومع تسليمنا بأن هذا الإحساس إحساس إنساني مبرر ومفهوم، لأنه يُشبع فينا رغبة دفينة إلى الخلود، فإننا لا يصح أن نكون ماضويين بتفكيرنا وتصرفاتنا لأن الحاضر هو الحقل الذي نستطيع التأثير فيه، أما الماضي فإن بيننا وبينه برزخاً وحجراً محجوراً يحول بيننا وبين التأثير فيه، وهذه الحقيقة لا تعني انفصالنا التام عن الماضي وعدم الاستفادة منه، فليس ثمة ماضٍ خالٍ من الإضافة إلى الحاضر، لكن المهم أن نلتقط من الماضي ما يخدم الحاضر ويعيننا على بناء مستقبل أفضل، أما ما يمثله الماضي من إشكاليات فنحن في غنى عنها.
الفارق بين التاريخ والتأريخ:
والحديث عن التاريخ يعيدنا إلى البدايات، ولكن قبل هذه العودة، وقبل أن نخوض في مسارب التاريخ ودهاليزه الملتوية، يجدر بنا أن نميز بين مصطلحين كثيراً ما يختلط أحدهما بالآخر، أولهما مصطلح التاريخ (History) الذي يعني مجموعة الأحداث التي وقعت فعلاً منذ بدء الخليقة وحتى اللحظة الراهنة، وثانيهما التأريخ (Historiography) ويعني العملية التي يقوم بها المؤرخ لتدوين تلك الأحداث، وفي هذه العملية يستعين المؤرخ بالأخبار والآثار والروايات والسجلات والمذكرات والوثائق ليستخرج منها المادة التاريخية التي يعمل على تدوينها.
التاريخ إذاً هو وقائع موضوعية وقعت فعلاً في الماضي، أما التأريخ فهو عمل بشري يمارسه المؤرخ في الحاضر، فيسجل تلك الوقائع تسجيلاً قد يطابق تلك الوقائع، وقد لا يطابقها، كما نبين بعد قليل.
وقد تواضع المؤرخون في العصر الحديث على إطلاق مصطلح ما قبل التاريخ (Prehistoric) للدلالة على الأحداث التي وقعت قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، ما يدل على أن المؤرخين المسيحيين هم الذين وضعوا هذا المصطلح الذي شاع عند بقية المؤرخين في العالم فيما بعد، على الرغم من أن (تاريخ العالم) لم يبدأ بميلاد السيد المسيح، بل بدأ من اللحظة التي قال الله تعالى فيها لهذا العالم ((كُنْ)) فكان، وكذلك (التاريخ البشري) لم يبدأ بميلاد السيد المسيح عليه السلام، بل بدأ بآدم أبي البشرية عليه السلام.
وقد كان البشر (قبل الميلاد) بزمن طويل يمارسون عملية التأريخ، وقد مارسوها بصورة شفوية في البداية، فكانوا يتناقلون أخبار آبائهم وأجدادهم وأقوامهم جيلاً بعد جيل، إلى أن عرفوا الكتابة والقراءة فبدؤوا يدونون تاريخهم بصورة بدائية غير منظمة، وقد وجدت بالفعل سجلات تاريخية مكتوبة تعود إلى ما قبل الميلاد في كل من مصر القديمة وبابل والصين، إلا أن تلك السجلات كانت تفتقر إلى التنظيم والدقة والترابط والترتيب، وقد بقي حال التأريخ هكذا حتى جاء المؤرخ الإغريقي الشهير هيرودوت (484 ـ 425ق.م)(1) الذي يعده المؤرخون (أبا التأريخ) لأنه أول من دوَّن الحوادث التاريخية تدويناً منظماً، ورجع في تأريخه إلى أقدم العصور التي وصلته أخبارها، ودوَّنها في كتابه (تاريخ هيرودوت) الذي لم يتوقف فيه عند سرد الأحداث السياسية فحسب، بل دوَّن فيه أيضاً تاريخ الأساطير والعادات والتقاليد، ما أضفى على كتابه مسحة موسوعية تدعو للإعجاب حقاً.
أما العرب فقد اهتموا بالتأريخ اهتماماً بالغاً منذ العصر الجاهلي قبل الإسلام، فقد اشتهروا بحفظ الأنساب، وأخبار الأمم المعاصرة والغابرة، وكانت لهم روايات كثيرة سارت بها الركبان، إلا أنها لم تكن روايات موثقة، ولم تخل من مسحة أسطورية اختلط فيها الخيال بالواقع، حتى إذا جاء الإسلام وجدوا لزاماً عليهم تحري الدقة الشديدة في الروايات لما لها من تأثير في مسار التشريع الإسلامي، وبخاصة عند تدوينهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعد المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم، وقد بلغت عنايتهم بالروايات حداً جعلهم يؤسسون علماً جديداً لم يعرفه المؤرخون من قبل، أطلقوا عليه وصف (الجَرْح والتَّعْديل)، وهو العلم الذي ميزوا به ما بين الرواة الثقاة والرواة الضعفاء والرواة الوضَّاعين، وقيَّموا به أيضاً متن الروايات من حيث القوة والضعف.
وبهذا سبق المؤرخون المسلمون غيرهم من الأمم بتمحيص الروايات وتدقيقها ونقدها والحرص الشديد على صحتها، وكان حياد المؤرخين المسلمين وموضوعيتهم العلمية سمتين تستحقان التقدير والإعجاب، وقد بلغ من عنايتهم بالتأريخ أنهم كانوا يسجلون الوقائع بالسنة والشهر واليوم وهو عمل لم يسبقهم إليه أحد من المؤرخين، حتى إن المؤرخ الشهير (باكل) صرَّح أن هذا العمل الدقيق الذي أسسه المسلمون لم يحدث مثله في أوروبا إلا في عام 1597، أي بعد أن درج عليه المؤرخون المسلمون بقرون طويلة(2).
وبالمقابل نجد أن الروح الناقدة لدى المؤرخين في أوروبا إبان العصور الوسطى قد كبتت كبتاً شديداً تحت سطوة أرباب الكنيسة، لأن التعليم وقتئذ اقتصر على رجال الدين، وحصرت عملية التأريخ بهؤلاء الرجال الذين بطبيعة تعليمهم الكنسي انحازوا إلى تعاليم الكنيسة وإلى الملوك والأشخاص الذين ناصرتهم الكنيسة، وهذا ما نلاحظه مثلاً عند (القديس أوغسطين)(3)، ولاسيما في كتابه (مدينة الله) الذي يعود إلى عام 420م.
وبسبب هذه النزعة الكنسية غير المحايدة التي سيطرت على مؤرخي العصور الوسطى ثار مؤرخو (عصر النهضة الأوروبية)(4) على المؤلفات التاريخية التي دوِّنت في تلك الحقبة، ووجدوا أن لا مندوحة من إعادة كتابتها لتصحيح ما انطوت عليه من مغالطات تاريخية فادحة، وقد شرعوا بهذه المراجعة في مطلع القرن السابع عشر، فجمعوا المصادر التاريخية القديمة، وراحوا يفحصونها ويمحِّصون ما جاء فيها من أخبار، مدشنين بهذا العمل عصر التأريخ الحديث(5).
وهكذا، مع دخول العصور الحديثة، أخذ علم التأريخ يقترب أكثر فأكثر من الموضوعية، وفي أواخر القرن الثامن عشر ظهر علمان جديدان ساندا علم التأريخ مساندة قوية، هما علم المستحاثات أو الأحافير (PALEONTOLOGY) وعلم أصول اللغات (LINGUISTICS) اللذان ساهما مساهمة كبيرة في نقد الروايات التاريخية، ودراسة التاريخ دراسة أكثر موضوعية.
ومع مطلع القرن العشرين، وبمساندة علوم أخرى عديدة، ولاسيما منها العلوم الإنسانية، مثل علم البشريات (ANTHTOPOLOGY)، وعلم النفس (PSYCHOLOGY)، وعلم الاجتماع (SOCIOLOGY) ظهرت مدارس تاريخية جديدة، وتخصصات تاريخية عديدة، وغدت عملية التأريخ عملية معقدة تحتاج إلى فريق عمل يضم إلى جانب المؤرخين علماء آخرين متخصصين في بقية العلوم ذات الصلة.
إعادة كتابة التاريخ:
ومما يسترعي الانتباه في تاريخ المؤرخين أن أكثرهم لم يتوقف عند التأريخ لعصورهم فحسب بل اهتموا اهتماماً ملفتاً للنظر بالتأريخ لهذا الوجود من مبتداه وحتى منتهاه، وتزخر رفوف المكتبات القديمة منها والحديثة بأعداد لا تحصى من الكتب التي انتهجت هذا المبدأ، ولعل من أشهر هذه الكتب في التراث العالمي القديم ما تركه لنا المؤرخ الإغريقي هيرودوت الذي أشرنا إليه آنفاً، أما في تراثنا العربي الإسلامي فربما يكون كتاب (البداية والنهاية) للعلامة المفسِّر المؤرِّخ (ابن كثير)(6)، أشهر ما كتب حول تاريخ الوجود من مبتداه وحتى عصر الكاتب نفسه، وقد قسم ابن كثير كتابه إلى ثلاثة أقسام، فتناول في القسم الأول بدء الخليقة من لدن أبي البشرية آدم عليه السلام، ولمعاً من تاريخ الأمم الغابرة إلى عصر الجاهلية عند العرب، ثم نشأة النبي محمد بن عبد الله ? والبعثة النبوية حتى الهجرة إلى المدينة المنورة، وفي هذا القسم اعتمد ابن كثير في الحصول على معلوماته على ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية، وما دَوَّنه كبار المؤرخين الذين سبقوه، من أمثال (محمد بن عمر الواقدي)(7) الذي يعد أول المؤرخين في العصر الإسلامي، والإمام المؤرخ المفسر (محمد بن جرير الطبري)(8)، والصحابي الجليل (عبد الله بن عمر)(9)، وغيرهم من أصحاب التأريخ والسِّيَر، وفي القسم الثاني أرَّخ ابن كثير لعصر الخلفاء الراشدين، فالدولة الأموية، فالدولة العباسية وما تفرع عنها من ممالك ودويلات أيام انحطاطها وتدهورها ثم قضاء المغول عليها، وهكذا حتى وفاة ابن كثير نفسه رحمه الله تعالى (774هـ / 1372م)، أما القسم الثالث فقد أفرده ابن كثير للحديث عن الآخرة ومظاهر قرب الساعة وعلاماتها، فكأنه بهذه الإضافة إلى تاريخه أراد استكمال قراءة تاريخ الوجود حتى النهاية (!؟)
ويبدو لي أن اشتغال بعض المؤرخين في كل عصر بتدوين تاريخ الوجود، من أوله وحتى نهايته المنتظرة، يدلُّ دلالة واضحة على الحاجة المتجددة في كل عصر لإعادة قراءة تاريخ العالم مرة بعد مرة، إما لتصحيح المعلومات التي لم يدوِّنها السابقون بالدقة العلمية الكافية، وإما لإضافة ما استجد من حوادث، وإما لأغراض أخرى علمية أو سياسية، مبررة أو غير مبررة (!؟)
ولا غرو بأن هذه الحاجة المتجددة لإعادة كتابة التاريخ، وهذا التعديل المتواصل في سجلات المؤرخين، يدل دلالة واضحة على ما يعتري العمل البشري عادةً من قصور وعلل، ويدل كذلك على أن العلم البشري مهما حقق من قفزات علمية واسعة فإنه يبقى علماً قاصراً عن تحقيق الكمال، مصداقاً لقوله تعالى: ((وَمَا أُوتيتُم منَ العِلْمِ إلا قَليلاً)) سورة الإسراء 85، وربما كانت عملية التأريخ من أكثر الأنشطة البشرية عرضة لمثل هذا القصور وتلك العلل، وهذا هو مدار حديثنا في اللقاء القادم إن شاء الله تعالى.
هوامش: أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه
1 - هيرودوت (484 ـ 425ق.م): مؤرخ إغريقي، ولد في بلدة هليكرناسوس، وحين بلغ العشرين من عمره نفي إلى جزيرة ساموس لتورطه بانقلاب فاشل ضد الأسرة الحاكمة، ويبدو أنه لم يعد إلى بلدته بعد ذلك رغم اعتداده الشديد بانتسابه لها، وبعد نفيه بدأ رحلاته التي وصفها في تاريخه، ومنها مصر، أوكراينا، إيطاليا، وصقلية، وفي عام 444 ق.م انتقل إلى مستعمرة يونانية في جنوب إيطاليا تدعى توري حيث بدأ بكتابة تاريخه في تسع مجلدات، وهو مؤلفه الوحيد الذي وصلنا كاملاً.
2 - انظر: الموسوعة العربية الميسرة، ص 480 وما بعدها.
3 - القديس أوغسطين (354 - 430م): من الشخصيات المؤثرة في تاريخ المسيحية الغربية، تعتبره الكنيستان الكاثوليكية والأنجليكانية قديساً وواحداً من أبرز باباوات الكنيسة، ويعتبره بعض البروتستانت وخاصة الكالفنيون أحد المنابع اللاهوتية لتعاليم الإصلاح البروتستانتي، وتعتبره بعض الكنائس الأرثوذكسية مثل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية قديساً، بينما يعتبره بعضهم هرطقياً بسبب آرائه حول مسألة الفيض (Emanation) في خلق العالم.
4 - عصر النهضة الأوروبية: فترة انتقال أوروبا من العصور الوسطى (Middle Ages) إلى العصور الحديثة (Modern Ages) ويمتد عصر النهضة من القرن 14 إلى القرن 16، ويؤرخ له بسقوط القسطنطينية في يد المسلمين وإعلانها عاصمة للخلافة الإسلامية، ما أدى لهجرة العلماء إلى إيطاليا وهم يحملون تراث الحضارتين الرومانية واليونانية، ولهذا بدأت بوادر النهضة في إيطاليا ومنها انتشرت إلى بقية أنحاء أوروبا.
5 - الموسوعة العربية الميسرة، مصدر سابق.
6 - عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير (ت 774هـ): دمشقي، مفسر ومؤرخ وراوية للحديث، مؤلف موسوعي ولاسيما في كتابه (البداية والنهاية)، ومن مصنفاته الشهيرة أيضاً (تفسير القرآن الكريم).
7 - محمد بن عمر بن واقد السهمي الأسلمي (ت 207 هـ) ولد في المدينة المنورة وتوفي ببغداد، من أوائل المؤرخين في الإسلام ومن أشهرهم، كان من حفاظ الحديث، من تصانيفه (المغازي النبوية)، و (فتح أفريقيا)، و (فتح العجم)، و (فتح مصر)، و (تفسير القرآن الكريم).
8 - محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ) ولد في طبرستان وعاش في بغداد وتوفي فيها، من مصنفاته (أخبار الرسل والملوك) الذي يعرف باسم تاريخ الطبري، و (جامع البيان في تفسير القرآن).
9 - عبد الله بن عمر بن الخطاب (10 ـ 73 هـ) نشأ في الإسلام، وصاحَب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد معه معظم الغزوات، وظل يفتي الناس سنين طويلة حتى وفاته، وكان من المكثرين لرواية الحديث النبوي.
التعليقات