نشأت وترعرعت فى حارة صغيرة بالقاهرة وكنت فى طفولتى أتخيل أنه لا يوجد شئ خارج تلك الحارة، وكنت أشاهد المبانى المتلاصقة والمتواضعة والتى لا يزيد إرتفاعها عن ثلاثة أدروار وكأنها عمارات شاهقة ولا ناطحات سحاب نيويورك وتلتقى عند نهاية الحارة فى نقطة الصفر، وكنت أعتقد أنه لا يوجد أى شئ خارج نقطة الصفر فى نهايةالحارة، وأن هذه الحارة هى أجدع حارة فى الدنيا، وربما هى quot;أم الدنياquot; قبل أن أسمع تعبير quot;مصر أم الدنياquot;.
وبعد أن بدأت الخروج من الحارة إلى حارات أخرى وميادين فسيحة كنت مازلت مصرا وأنا صبيا صغيرا أن حاراتنا هى أجدع حارة فى الدنيا، وفى المدرسة بدأت التعرف إلى تاريخ مصر الفرعونية وبدأ المدرسون يغرسون فى نفوسنا وعقولنا أن الحضارة بدأت من مصر وأن مصر فعلا quot;أم الدنياquot;، ولم ندرس الكثير عن الحضارات الأخرى مثل الحضارات الصينية والهندية والبابلية والآشورية والفارسية وحضارات الأنكا والمايا فى أمريكا الجنوبية، ولم نكن (فيما يبدو) فى حاجة لدراسة أى من تلك الحضارات لأن إيماننا كان شديدا بأن quot;مصر أم الدنياquot; لذلك لا حاجة لأم الدنيا أن تعرف شيئا عن البلاد الأخرى، وفى المدرسة واجهزة الإعلام عرفنا بأن المصريين هم أصل كل شئ، حتى أن النكتة وقتها كانت تقول بأن رائد الفضاء الأمريكى (نيل آرمسترونج) أول إنسان هبط على سطح القمر قد (تكعبل) عند نزوله إلى القمر فى مومياء مصرية فرعونية من عهد رمسيس الثانى أول من أرسل بعثة مصرية إلى القمر !!
ولست أدرى من هو صاحب المقولة بأن quot;مصر أم الدنياquot;، فهو فلابد وأن يكون مصريا، ولكن على أى أساس وضع تلك النظرية بأن quot; مصر أم الدنياquot;، فمن الأمور الثابتة أنه قامت فى مصر أول دولة وحكومة مركزية موحدة فى التاريخ على يد الملك الفرعونى (مينا) موحد القطرين، ولكن هل يعطى هذا الحق لمصر بأن تعلن نفسها بأنها أم الدنيا ؟ والحصارة المصرية القديمة من أقدم الحضارات وأطولها لأنها دامت لحوالى ثلاثة آلاف سنة متصلة (من سنة 3150 قبل الميلاد وحتى عام 343 قبل الميلاد عند نهاية الأسرة الثلاثين بقيادة آخر ملوك الفراعنة الملك ناخ ثوريب) و لاينافسها فى طول البقاء سوى الحضارة الصينية، وإن كانت الصين لم تصبح دولة موحدة إلا فى عهد أسرة (كن) والتى تولت حكم الصين فى الفترة من سنة 221 قبل الميلاد وحتى سنة 206 قبل الميلاد (أى بعد حوالى ثلاث آلاف سنة من توحيد القطرين فى مصر على يد الملك مينا). وإن كانت الصين كدولة موحدة إستمرت حتى نهاية عهد الأسرات الصينية فى عام 1911 بعد الميلاد فى عهد أسرة (كنج) والتى حكمت الصين للفترة من 1644 حتى عام 1911 بعد الميلاد وعندها نِشات جمهورية الصين الحديثة.
....
ومازلت أذكر الفيلم الرائع quot;الملك وأناquot; للممثل الأمريكى (يول براينر) وهو يحكى عن أن ملك (سيام) (تايلاند حاليا) قد قام بإستقدام مدرسة إنجليزية من إنجلترا لتدريس أولاده وبناته فى قصره اللغة الإنجليزية وغيرها من العلوم الحديثة، وعندما بدأت المدرسة فى تدريس الجغرافيا وضعت خريطة للكرة الأرضية وظهرت فيها (مملكة سيام) كنقطة صغيرة على خريطة العالم، فإعترض بنات وأبناء ملك سيام على المدرسة وقالوا لها (بأن سيام هى أعظم بلد فى الدنيا ) ومن غير المعقول أن تمثلها تلك البقعة الصغيرة على الخريطة، ولم يكن ينقص أن يقولوا بأن (سيام أم الدنيا)!!
ومن المشاهد الطريفة فى الفيلم مشهد ملك سيام (يول براينر) وهو يقوم بإملاء خطاب تكتبه المدرسة إلى الرئيس الأمريكى (أبراهام لنكولن) ويعرض فيه على (لنكولن) مساعدته بإرسال عدد من الأفيال لمساعدته فى كسب حربه ضد الجنوب لتحرير العبيد !!
لذلك فأعتقد أن كل شعب يعتبر بلده (أم الدنيا).
وحاليا تعتبر أمريكا نفسها (أم الدنيا) و(بوليس الدنيا) وال (بج بوس) (الراس الكبيرة)، وأعتقد أن عندهم حق إلى حد ما فأمريكا القوة الإقتصادية والعسكرية والفنية والرياضية والمالية الأولى فى العالم، فمن هنا أعترف أن quot;أمريكا أم الدنياquot; حاليا، وأن quot;مصر أم الدنياquot; زمان !!
فما حدث لمصر وكيف لم تصبح أم الدنيا؟:
حضارة مصر الفرعونية إنتهت بسبب كثرة الغزاة وتحديدا الغزو الفارسى والذى أرخ لنهاية مصر الفرعونية، ثم جاء بعد ذلك الإسكنر الأكبر وإنتصر على الفرس وتوالى بعد هذا الغزاة على مصر، حتى غزاها نفر من أبنائها فى النصف الثانى من القرن العشرين !!
ونظرة إلى أوضاع مصر الحالية فنجدها لا تضعها فى مرتبة أم الدنيا ولا أخت الدنيا ولا حتى بنت عم الدنيا !!:

التعليم : نسبة الأمية من أعلى النسب فى العالم بحسب تقارير منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة.
المتعلمون وحملة الشهادات فى تقهقر نوعى مستمر وتقهقر ترتيب الجامعات المصرية فى العالم بعد أن أصبح معظم خريجوها أنصاف متعلمين.
وأكبردليل على فشل التعليم فى مصر هو إنتشار الدروس الخصوصية بشكل وبائى خطير ليس له نظير فى أى مكان فى العالم.

الإقتصاد: بالرغم من المحاولات المستميتة لإجتذاب رؤوس الأموال لتدعيم الإقتصاد المصرى، إلا أن الفساد الحكومى والبيروقراطية المصرية (المنقطعة النظير) ما زالت تعامل المستثمرين على أنهم حرامية، ولا يرغبون إلا الربح، يانهار أسود تخيل مستثمر يرغب فى الربح، شوف ياأخى طمع الدنيا.
وأصبحت مصر تستورد كل شئ من الصين حتى فوانيس رمضان والتماثيل الفرعونية التذكارية وسجاجيد الصلاة وعروسة المولد التى ترقص على أنغام أغنية شعبان عبد الرحيم، وتحولت مقولة (هيروديس) بأن (مصرهبة النيل)، إلى (مصرهبة الصين).

الإنفجار السكانى والبطالة: نتيجة للإنفجار السكانى والفشل فى إجتذاب الإستثمارات أصبحت البطالة متفشية بما تشكله من خطر على سلامة المجتمع.

لتطرف الدينى: مع إنتشار البطالة وتخريج الآلاف من أنصاف المتعلمين كل سنة أصبح التطرف الدينى يشكل خطرا ليس على مصر فقط ولكن على المنطقة والعالم، وأصبحت مصر تقوم بتصدير زعماء ومنظرى الإرهاب إلى كل أنحاء العالم.
والقائمة طويلة تحتاج إلى كتاب وتستلزم مواجهة حاسمة وصريحة (صراحة جارحة) مع النفس للخروج من هذا المستنقع مما جعل مصر تبدو وكأنها quot;رجل منطقة الشرق الأوسط المريضquot;.
ولن تنفع الخطب والخطط الورقية التى تبقى فى الأدراج، بل يجب مواجهة المشاكل من جذورها ولنبدأ بالتعليم والذى هو أساس كل شئ.
...
وعلى فكرة عندما كان القرويون ينزلون القاهرة لأول مرة كانوا يبهرون بها لأن كل شئ و كل الخدمات مركزة وموجود بالقاهرة، ولذلك أطلقوا على القاهرة أسم quot;مصرquot; وقالوا أن quot;مصر أم الدنياquot;، وهى بالنسبة لهم سوف تظل كذلك لأن كل شئ مازال مركزا فى القاهرة.
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه