حين شاهدت فضائية (الناس) الغرّاء للمرة الأولى لم يفزعني مضمون برامجها، ولا شيوخ السلفية الذين يصولون ويجولون في شتى قضايا الحياة، من فتاوى ورقائق وأدعية وخطب عصماء، وصولاً إلى quot;مجالس البكاء والشحتفةquot;، كل هذا لم يستوقفني لأنه يعبر عن ذائقة المجتمع المصري في هذا الزمان الكالح من عمر المحروسة، الذي تعدو فيه البلاد والعباد صوب السلفية في شتى مناحي الحياة.
ما استوقفني هو شعار الفضائية السلفية، وهو: quot;شاشة تأخذك للجنةquot;، والذي تصّر على بثه كتابة وصوتياً بلهجة مسرحية، ولا أدري كيف يمنح القائمون على الفضائية أنفسهم حق دخول الجنة أو الخروج منها، مع أنهم شخصياً، لا يجرؤون على الزعم بأنهم يضمنون الجنة لأنفسهم، فكيف إذن يبيعونها بطريقة تشبه quot;التايم شيرquot;، حتى لو تطوع أحدهم بتبرير الأمر بزعم أن ما تدعو إليه الفضائية هو المنهج الذي يأخذ المرء للجنة، فهذه متاجرة فجة بالمقدسات الدينية، فليس مقبولاً أن يختطف أحدُ الدين لنفسه، ويزعم أن منهجه هو السبيل الأوحد لرضا الله، وينصب نفسه وكيلاً حصرياً لشؤون القداسة.
والمتتبع لبرامج تلك الفضائية يجد طرحا متشدداً خشناً لتعاليم الدين، ولو اعتمدنا ما يدعون إليه من تعاليم وفتاوى، لأصبح ثلاثة أرباع المصريين كفاراً، أو فاسقين على أفضل الفروض، وهذا ينسف أسمى ما في المنهج الإسلامي وهي وسطيته، ويمهد الطريق أمام quot;خط إنتاجquot; جديد لعناصر من الجيل الثالث للمتطرفين الذين اصطلح على تسميتهم بالسلفية الجهادية، وهم الفصيل الأكثر تشدداً بين منظمات الإرهاب.
ويبدو أنني لا أغرد خارج السرب وحيداً حين توجست من شعار quot;شاشة الجنةquot; ورأيته منافياً لتواضع العلماء، بل وافتئاتا على حق من حقوق الله تعالى، إذ كان هناك عبر الإنترنت عشرات المدونين ينتقدون الأمر، وتساءل أحدهم بسخرية ومفردات عامية معبرة: quot;شاشة إيه إللي حتدخلنا الجنة؟، يعني ننصب ونسرق ونرتشي ونبيع ضميرنا وآخر اليوم نفتح الشاشة بتاعتهم عشان نطهر نفسنا من ذنوبنا، ونرفع رصيدنا بشوية حسنات فضائية لو استمعنا لمشايخها، وممكن نوصل لمنزلة الأتقياء الورعين لو اتصلنا بالأرقام (الساخنة), وحطينا صورهم وأصواتهم على موبايلاتنا، ومش بعيد ترتفع درجاتنا لمنزلة أولياء الله الصالحين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، إذا صدقنا إعلانات العسل والأعشاب والمراهم وشورت التخسيس واللبان الدكر واشتريناهاquot;.
والحاصل أن فضائية (الناس) تروج لتدين لم تعرفه مصر منذ أن كانت تعبد quot;آمون رعquot; حتى هداها الله إلى سبيله، وهو الإصرار على تحويل صلة العبد بربه لمجموعة طقوس شكلية، والإمعان في مظاهر تراثية تعادي قيم الحضارة والفن والآداب والحياة برمتها وتروج للخرافات كالشفاء التام من مرض السكر مثلاً، وهو ما لا تجرؤ شركات الأدوية العالمية أن تزعم توصلها إلى دواء يعالج نهائياً أمراض السكري والضغط والعقم والكوليسترول في quot;كبسولة عجيبةquot;، ناهيك عن quot;أكسير الحياةquot; الذي يعيد للعجائز شبابهم وحيويتهم.
وتسوق هذه الفضائية لمزيج غريب وغير مفهوم بين سلفية السلوك والنزوعة للاستهلاك، ففي الوقت الذي يدعو فيه شيوخ الفضائية للتشدد في شؤون الدين والدنيا، إلا أنها تغرق مشاهديها بأنماط غريبة من السلع الاستهلاكية، واللافت هنا أن معظم الشركات المعلنة لا تسوق لمنتجاتها سوى عبر هذه الشاشة، وهذا يعني ببساطة وجود اقتصاد مواز سلفي التوجه، بات ينتشر حول المساجد التي تهيمن عليها جماعات أو جمعيات سلفية، وصولاً لشاشات الفضائيات، مرورا بعشرات من الأنشطة الاقتصادية الأخرى.
ثمة ملاحظة أخرى تتمثل في حرص غالبية مشايخ quot;فضائية الجنةquot; على ارتداء الشماغ أو الغترة، فما المانع أو العيب حين يظهر الشيخ بزي أهل بلده حتى يستسيغه الناس، ويوفر على نفسه عناء هذا التكلف، والأخطر هو ربط هذا الزي الاجتماعي بالدين ومحاولة إضفاء القداسة عليه، وسمعت الشيخ محمد حسان يؤكد اعتزازه البالغ بالغترة والثوب قائلاً: quot;إنها مبعث عزه للمسلمين وسيأتي يوم يعود فيه المسلمون لهذا الزي المباركquot;، وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن أجندة هذه الفضائية، والثقافة التي تروج لها، خاصة وأن الإسلام لم يأمر أتباعه بارتداء زي محدد بل يحصر هذا الأمر في تحقيق غاية quot;ستر العورةquot; بأي طريقة كانت، خاصة وأنه رسالة عالمية، وليس ديناً لقوم بعينهم.
الغريب في الأمر أنه بينما تتجه المجتمعات الخليجية وهي سلفية المنشأ في أغلبها، بحكم ظهور الدعوة الوهابية في نجد، لتصبح أكثر انفتاحا بعد أحداث 11 سبتمبر، وراحت مجتمعات الخليج والسعودية تتجه لدعم رؤى إسلامية متسامحة وعقلانية، بينما وجد مشايخ هذه المدرسة ضالتهم في مصر يسعون لنشر فكرهم السلفي المتشدد الذي لا يرى غير نفسه في الكون، وهذه هي الخطوة الأولى نحو التطرف والإرهاب
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه