حين سمعت المطربة الجميلة quot;أنغامquot; للمرة الأولى تغني باللهجة الخليجية، باغتني شعور بالارتباك، وتساءلت ـ والسؤال ليس حراماً ـ لماذا كانت مصر ذات زمان مضى، تستقطب فايزة أحمد السورية، ووردة الجزائرية، وصباح اللبنانية، وعليا التونسية، وعتاب السعودية وغيرهن، ليغنين باللهجة المصرية، بل ذهب كثير من الفنانين العرب إلى ما هو أبعد من ذلك إذ جرى تمصيرهم، ولامس كثيرون منهم هوية مصر الحضارية، وطالتهم روحها المتسامحة قبل أن يحملوا جواز سفرها، فلماذا يحدث العكس الآن؟
لم تكن أنغام أول من يفعل ذلك، فقد سبقتها إلى هذه التجربة مغنيات كثيرات من مصر وغيرها، لكن أنغام ليست أي مطربة، فهي ـ بتقديري ـ واحدة ممن انعقدت آمال كبرى على حنجرتها لتعيد الغناء المصري إلى عرشه، الذي اهتزت أركانه برحيل الكبار، وما ترتب على ذلك من فراغ احتلته الغربان والحدادي.
كانت القاهرة عاصمة الشرق وبوابته الرحبة، حين كانت مصر قادرة على صناعة أيقونات حضارية من وزن توفيق الحكيم وطه حسين والعقاد وعبد الرحمن بدوي ولويس عوض ونجيب محفوظ وأم كلثوم وعبد الوهاب وليلى مراد ومئات غيرهم ممن شكلوا وجدان وذائقة كل شعوب المنطقة.
غير أن مياها كثيرة جرت في النيل، وسالت على ضفافه دماء ودموع، فأصبحت مصر الآن تنتج أيمن الظواهري وأبو أيوب الإرهابي، والشاب عمرو خالد وغيره من وعاظ quot;الروك أند رولquot;، وخرج علينا من يبشرنا بما يسمى quot;السينما النظيفةquot; والأدب الإسلامي،واختفت معظم نساء مصر خلف أزياء مستوردة من صحاري التخلف، بعد أن جرت عملية تدليس كبرى بإسباغ الصفة الدينية عليها، وأصبح الشاب اليافع في العشرينات من عمره يفكر في الجنة، بدلاً من أن يعمل لدنياه ويسعى لصنع فردوس أرضي، كما فعل أبناء أمم أخرى تجاوزتنا، حين حولوا بلادهم إلى جنات في متناول الجميع، دون تجهم ولا كآبة، ولا متاجرة رخيصة بشؤون السماء وتدابيرها.
تشغلني كثيراً هذه الأيام تفاصيل حالة الانحطاط الحضاري التي انزلقنا إليها في مصر خلال العقود الماضية، وكيف تحولت مصر خلالها من منصة لإطلاق الحريات والفنون، وبورصة للأفكار والإبداع، إلى مخزون هائل للتعصب والكراهية، وانعدام الرغبة في الحياة والانسحاب منها، وراح أشرار قدموا من كل حدب وصوب ينفثون سمومهم من أجل تعميق هذه الحالة في مصر، وهكذا تربعت على عروش قلوب الشباب أسماء من فصيلة quot;أبو الأشبال السلفي، وأبو سراقة الأثريquot;، بعد أن كانت تلك القلوب مسكونة بعشاق الحياة، وباختصار أصبحنا الآن في مصر من أكثر شعوب المنطقة كآبة، وصار المصري المرح مجرد تراث، وأصبحنا مستفزين لدرجة التلذذ بإيذاء بعضنا البعض، حتى لو لم نحقق من ذلك أي منفعة.
وهكذا كان منطقياً أن تصبح أيامنا مثلنا كئيبة، نتلقى كل يوم فيها صفعة ممن راهنا عليهم، وتحدينا العالم من أجلهم، ونكتشف مع كل طلعة شمس أننا أخطأنا في حق أنفسنا كثيراً، حين أهملناها من أجل آخرين لا يستحقون.. خذلونا في أول اختبار حقيقي.
أكتب هذا، وكأنني أتحدث على لسان الفنانة quot;أنغامquot;، التي لم تصرح لي بالطبع بهذه المعاني، بل ولم يحدث أن التقيتها من قبل، لكنني أتخيل هذه الفتاة الرقيقة التي تشبه زهرة quot;عباد الشمسquot;، تلف حول معشوقتها quot;الشمسquot; من الشروق إلى الغروب، تستمع فقط إلى صوت قلبها، وحين يدخل الشتاء وتحل لياليه الباردة الطويلة، فلن يكون بوسعها إلا أن تقاوم، وأن تملأ حياتها وحياتنا بألوان قوس قزح، وأن تعد موائد البهجة لعشاقها.
لكن كيف يمكن أن نطالبها بكل هذا، بينما هي في نهاية المطاف quot;إنسانةquot;، ليست قادمة من كوكب quot;بلوتوquot;، بل ووحيدة خذلها الجميع، بدءاً بأبيها الذي أرادها quot;دجاجتهquot; التي تبيض ذهباً، ليحقق من خلالها ما لم يحققه وحده، إلى بطل قصة زواجها الأول الذي تحدت من أجله العالم فخذلها، وصولا إلى محطتها الثانية التي تشبه quot;نزوةquot; خذلت فيها أيضاً، وبعد كل هذا، نطالبها بتلوين أيامنا الكئيبة بأنغام البهجة، أليس هذا كثيراً وظالماً؟
غير أن حساسية أنغام، لا تعني بالضرورة أنها quot;هشةquot; وقابلة للكسر، وأتصور الأمر عكس هذا تماماً، وأتخيل أنها قوية بقدر كافٍ يؤهلها لتجاوز أزماتها، لكن وبكل محبة وإخلاص، أقترح على فنانتنا العذبة أن تنغمس إلى أبعد حد ممكن في فنها، وأن تنصهر فيه، وأن تفكر به طويلاً وعميقاً، وأن تستمع وتقرأ وتقترب أكثر من الناس البسطاء العاديين، وأن تخرج من دائرتها الضيقة، حتى تفجر كل براكين الإبداع داخلها، والتي أؤكد أنها ستغير وجه الغناء في مصر، وكلي ثقة ـ لها ما يبررها ـ بأن أنغام فنانة كبيرة، أكبر كثيراً مما يظنه الكثيرون، ومما تظنه هي بنفسها، إنها لم تكتشف نفسها حتى الآن، وأدعوها لذلك.
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه