أعتذر سَلفًا للقراء عن هذا المقال لانه quot;ثقيل الظل quot; كثير المصطلحات، غير اني كلما اتجهت quot; لتحليل واقع ماquot; ومشاركة القراء فيه وجدت نفسي أتساءل عن البُنى الاساسية المُحَرّكة للفكر الذي يَنبني عليه سلوك الانسان المنتج للواقع المأزوم، إذ لا يمكن أن نصل الى إبداعٍ نوعيٍّ ما لم نحدث انقلابًا فكريًّا عميقًا، وهذه كلّها اشكاليات quot;فلسفيةquot; نَضطر للخوض فيها محاولين تبسيط المفاهيم قدر الامكان.
إنّ عمليّة فَهم التعقيدات الثقافية و الاجتماعية والسياسية، لا يمكن أن تكون بمعزل عن فَهم البُنَى الفلسفيّة المؤسِّسَة للفكر الانساني، ولعلَّ سبر quot;الظَواهرquot; التي تَطفو في المُجتمعات الانسانية بما فيها quot;السياسية quot; وquot; الاقتصادية quot; وغيرها؛ تُظهِرُ انَّ الأحداث اليومية ليست إلا صورًا متنوعة لانعكاسات الفكر الذي يكتَنِزُ قدرًا لا يُستهان به من quot;العنفquot;، الأمر الذي يجعلنا نتساءل جديًّا حول جدوى توصيف هذه الاحداث وقرائتها وحتى تحليلها، دون التعرّض إلى بيت الدَّاء وهو quot;البنى المُؤسِّسَة لمملكة الارهاب في الفكر الانساني!quot;
منطق عنيف!
لقد عاشَت الإنسانية قرونًا تؤمن أنَّ المنطقَ واحدٌ في كلِّ الأمكنة والأزمنة، وانَّ طبيعة الفكر كليّة عند بني البشر ومنهجيتها واحدة، وقد ساهم في ذلك سيطرة الفكر quot;الأرسطي quot; الصوري كقاعدة فلسفية اُرتُكِزَ عليها في مجالِ التطبيق، كما اعتُمِدَ على الفيزياء الكوانتية القائمة على مجموعة التناظرات والسببية الشاملة وغيرها من القوانين.
بطبيعة الحال فإن سيادة هذا المنطق القائم على عدم تلاقي quot;الأضداد quot;، المبني على مبدأ quot;عدم التناقضquot; - بحيث لا يمكن ان يجتمع الشيئ وضده-، أسَرَ الفكر البشري وأدخله في نفق الحتميات والاحكام المُطلقة، و حشر التفكير في زاوية quot;الثنائيات الضدّية quot; و قسَّمَ الأمور الى quot;قطبيةquot; حادَّةٍ ناجمةٍ عن تفكير quot;خطّيquot; ذو بُعدٍ واحد.
وتولَّد عند هذا المنطق التي تبنّته المؤسسات الدينية والمؤسسات السياسية واعتمدته الايديولوجيات بالدرجة الاولى، أمورًا عدة أهمّها:
اولا: تشريع النظرة الاستقصائية لكل ما يوصف بأنه quot;مختلفquot; وممارسة عنصرية مفرطة بحقِّه، في اطار يسوّغ العنف ويجعله مباركًا...ف quot;التقسيم الصارم للاضداد quot;الخير - الشر quot; quot;العدو - الصديقquot; quot;الكفر- الايمان quot; quot;الصواب - خطأquot;... سوّغ اطلاق الاحكام المطلقة على من يُصنف بانه quot;شرير quot; وأجاز استعمال العنف والاضطهاد تجاهه.
ثانيًا:الاعتماد الكلي على quot;قانون السببية quot; وأن هناك لكل شيئ سببًا، جعل الانسان عاجزًا عن فهم quot;الصُدَفْquot; بحيث لا يستطيع تفسير حوادث متزامنة لا يوجد بينها رابط سببي.
ثالثًا: هذا المنطق جعل الطبيعة خاضةً لقوانين الفيزياء، وبالتالي تكون عبارة عن مركّبٍ قابل لإخضاعات المنطق الرياضي ؛ عِلمًا ان الرياضيات الى الآن أعجز عن إيجاد صيغة تسمح بالانزياح من عالم الى آخر، لان مرورًا كهذا سيؤدي الى انقطاع القوانين والقواعد وانقطاع التصورات الأساسية التي ينبني عليها العمل الرياضي الكلاسيكي.
رابعًا: من ميراث هذا المنطق افتراض ان quot;الكونquot; آلة ميكانيكية مؤلفة من تفاعل مواد أولية قابلة للتوّقعات، وأن التاريخ يخضع للحتميات.
خامسًا: هذا المنطق يؤدي الى عملية الفصل الدائم بين الوجود الواقعي quot;المُحَايثquot; أي وجود ما هو موجود، والوجود quot;المُتعَالي quot; quot; وجود واجب الوجودquot;..
مرآة quot;المنطقquot; المجتمع والسلطة:
هذا المنطق quot; الغبيquot; هوالسائد؛ وهو الذي حَكم ويتحكَّم الى الآن في quot;الافعال وردودها quot;، سواء كانت أفعالا صادرةً عن أشخاصٍ أو جماعاتٍ أو دول، وهو الذي أفرز منظومات اجتماعية تفاقمت أزماتها، والتي هي في جوهرها وليدة هذا quot;النموذج الفكري الرسميquot;، تجلَّى في عنف سلطوي حاد ndash; والسلطة هنا بمفهومها quot;الشيئيّquot; لا quot;الاستراتيجيquot; ndash; كما أدى الى تكريس الصراعات التنافسية من أجل امتلاك السلطة وادواتها التي تعني quot;البقاءquot;؛ و سوَّغ ذكوريتها، فوضع الاناث في مرتبة دُنْيَا، مع تصوير ذلك على انه قانون لاهوتي طبيعي ؛ علاوة على طغيان مبدأ المنفعة الآنية المباشرة القائمة على سلوك الكائن quot;الاستهلاكيquot;؛ كما شرّع الحروب والعنف تحت ذريعة ادعاء امتلاك الحقائق المطلقة في مناخ quot;ميتافيزيقيquot; مُبْرَم.
نحو انقلابٍ فكري!
وفيما تشهدُ البشريةُ اليومَ، تسارعًا مضطّرِدًا وصُورًا جليَّة، توضح بأن العالم quot;مليئ بالتناقضاتquot; وأنَّ المَسافة بين الأضداد قد تكاد تكون معدومة، فإن quot;المنطق الأرسطيquot; لم يعد يتماشى مع تعقيدات المرحلة،التي أثبتت بأنّ ما تعاطى معه الكائن البشري وقتا طويلا على انه quot;قوانين ثابتة quot; هي في حقيقتها ليست الا عادات quot;فكرية ثقافية quot; مكتسبة تنتجها تفاعلات البشر مع بيئتهم الثقافية والطبيعية بكل أبعادها الدهرية (الزمانية والمكانية).
وبناءً عليه فإن ما تعاملنا معه على أنه quot;حقائق ثابتة quot; ليس الا quot;متغيراتquot; تتغير باختلاف مستويات الواقع المتغير الذي تنتمي اليه، وما ثبات الاشياء الظاهرة الى عين تغيرها وتبدلِّها؛ فهذه الرؤية تضعنا أمام مفهوم مغايرٍ للحقيقةِ، وتجعلنا نُعيد النَّظر من جديدٍ في مفهوم quot;كمال الحقquot;، وعندها ستنفتح أبواب الإبداع الانسانيِّ على مِصراعيْهَا بعد أن أغلقَهُ المَنَاطِقة ردحًا منَ الزَّمن، عشنا فيه تحت وطأة عنف الثنائيات الضُدِّيَة؛ وعندها لا مانع ان تجتمع المتناقضات على صعيد واحد، كما تتجلى إمكانية اجتماع الصواب والخطأ في آنٍ واحدٍ وفي قضيّةٍ واحدة.
الامر الآخر ينعكس في مفهوم quot; الجزء والكلّquot;، ففيما يكرِّس quot;المنطق الأرسطي مبدأ الفصل والتجزُّء، فإن وحدة الوجود تفتح افقًا مغايرًا عبر اتصال quot;الوحدة والكثرةquot;، فيكون الوجود نفسه هو سببًا وعلّةً لتعدديةٍ لا متناهية ولتفاوت آحاد الماهيات، وانّ للماهيات هويَّات لا محدودة، وان الاعيان متغيرة وان كانت ثابتة؛ لأنه على الرغم من أنّ للكائنات صورًا quot;استقلاليةquot; ولها ذاتيتها، غير انّ الفصل بين الواقع المحايث (الموجودات) والواجد أوقعنا في طريق مسدود ومنطق همش البعد الأونطولوجي وحدّ من ابداع الكائن الانساني عبر انتزاع البعد الروحي منه.
نعم،هذا الفكر يجعلنا نعبر اشكالية quot;التاريخquot; والزمان quot; فنتجاوزها لأن الزمان لا يكون موجودًا الا لانه quot;انقضىquot;!
انه انقلاب quot;فكريquot; انطولوجي إذن، ربما سيجد الانسان نفسه أمامه دون خيارمنه! وهو تحييدٌ لكل مفاهيمنا عن الزمان والمكان والانسان والوجود والهوية!
انها رؤية كونية تُلهم الكائن الانساني وترقى به إلى تخوم روحية لا حدود لها، وتضعنا على تماس بفضاءات فكرية لا متناهية.
[email protected]
http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com