أما الدبلوماسية الموصوفة في العنوان، فهي دبلوماسية الدول العربية وجامعتها العتيدة؛ وأما فذلكة انتصارات الهزائم أو الانتصارات الوهمية، فهي ما يميز عقلية الشارع العربي، المسموم بدعايات الإسلام السياسي، ومفاهيمه، وممارساته، وآخرها الصيحات المتحمسة عن انتصارات حماس، وهذه الفذلكة تميز أيضا معظم الحكومات العربية، عن قناعة أو عن مسايرة لغوغائية الشارع وطلبا للشعبية، أو بأمل دفع خطر تتوقعه.
لقد اعتادت الأنظمة طوال عهد الجامعة حل الخلافات، التي كانت أحيانا حادة جدا، لا بالصراحة، ولا بروح النقد وجها لوجه، وبالنقد الذاتي، بل بالطريقة التي سميت منذ زمان بطريقة 'تبويس اللحى'، وكانت النتيجة أن تظل الخلافات راقدة مؤقتا، والمسئوليات ضائعة، وفي بعض الحالات كانت الخلافات نفسها تنفجر فيما بعد، وقد دخل 'تبويس اللحى' القاموس السياسي العربي؛ وثمة مخرج للتهرب من النقد والمصارحة في القضايا الساخنة وهو التزام الصمت، أو المناشدات، والوساطات الخجولة، التي سرعان ما يرفضها المصرون على مواقفهم، والمراهنون المغامرون، كما حال المناشدات العربية لسوريا في قضية لبنان، أما الصمت التام، ففي مأساة دارفور مراعاة للنظام الإسلامي السوداني.
إن المواقف العربية من إيران، وسوريا، وحماس، تجسد الدبلوماسية التي وصفناها، وعق ثلية الشارع المصفق لكل مناد بالنصر المبين!
بالنسبة لقصة إيران، والمواقف العربية منها، فقد كتب العديد من كتابنا الموضوعيين الكثير عن التدخل الإيراني في شؤون العراق، ولبنان، وغزة، وعن مشروعها النووي الموجه أصلا، ليس ضد إسرائيل ولهدف 'إزالتها' من الخارطة، كما يطنطن عاليا أحمدي نجاد، بل هو موجه لتهديد دول الخليج، ولابتزازها، والضغط عليها للصمت عن تدخلها المتصاعد والصارخ، وعن أطماعها في الخليج، الذي تصر على تسميته بالخليج الفارسي.
ما هي المواقف العربية من موضوع إيران؟ أما الشارع، والتيارات الإسلامية، وفي مقدمتها الإخوانيون، فهي تصفق لخطب أحمدي نجاد في تهديد إسرائيل، وشتم بوش، حتى عندما يكون الرئيس الإيراني في المنطقة الخضراء، المحروسة أمريكيا، في بغداد!!؛ وإذا استعرضنا المواقف الرسمية العربية، فهي تتفاوت، ولكنها تلتقي في المجاملة الدبلوماسية، وتجاهل الخطر النووي.
إن مثالا صارخا على هذا الموقف دعوة مجلس التعاون الخليجي لأحمدي نجاد لحضور اجتماعات القمة، واستقباله بالأحضان، وهو الذي جاء بلا إعلان عن رد الجزر الإماراتية الثلاث، والكف عن الأطماع في البحرين، ووقف تدخل إيران في شؤون العراق، ولبنان، وفلسطين؛ كما تجاهل المجلس مشروعها النووي العسكري في صمت مطبق! إن هذا الموقف المائع، المفرط في المجاملة، هو الذي دعا الأستاذ طارق الحميد لأن يكتب ساخرا في 'الشرق الأوسط': ما دام الموقف العربي هو هذا، فلماذا لا تنعقد القمة العربية في طهران!! إن الإمعان في هذه الدبلوماسية المتخاذلة، التي ربما تسلك باسم التكتكة الذكية، لا بد أن يقود لتسويغ فكرة عقد القمم في طهران!!
أما لبنان، وتخريب حزب الله، ومغامرته التي أدت لتدمير معظم البنى التحتية اللبنانية، وقتل وجرح المئات، فلا نستطيع إضافة شيء لما نشره العديد من الكتاب اللبنانيين والعرب. نسأل: أية دولة عربية تجرؤ على أن تقول للنظام السوري أن المصلحة العربية تستلزم الكف عن تدخلها في لبنان؟ إننا لا نشاهد غير تحركات بلا نتيجة للسيد أمين الجامعة. وها هو اجتماع وزراء الخارجية في القاهرة يكتفي بالمناشدات، فيما سوريا مصرة على مواصلة التدخل في لبنان، والعمل لتعطيل انتخاب رئيس، ومحاولة إلغاء قرار المحكمة الدولية، وبدلا من موقف عربي رسمي أكثر حزما فإن دمشق تكافأ بعقد القمة العربية فيها؟
ماذا عن حماس؟
إن منظمة حماس أشعلت مجددا الساحة الفلسطينية بمغامرة الصواريخ، فكانت النتيجة ردا إسرائيليا دمويا، سقط جراءه العشرات، والعشرات من القتلى والجرحى، وبينهم أطفال. هل هذه الممارسات ستسرد أرضا، أو توجه ضربة للماكنة العسكرية الإسرائيلية؟ كلا بالطبع. أما العرب، فما بين مصفقين للنصر الوهمي، وبين حكومات لا تجرؤ على النقد والمحاسبة.
إن الجميع يعلمون أن القضية الفلسطينية كانت قضية العرب الأولى منذ ثلاثينات القرن الماضي، وقد كان المغني المنولوجيست سلامة الأغواني يردد من بداية الثلاثينات: 'فلسطين الشهيدة راح تتقسم والله حرام.' باسم القضية كم من مغامرات كارثية وقعت، وكم من انقلابات عسكرية، وهدر للحريات والكرامات، وتفريط بأموال الشعوب العربية! فأين نحن اليوم منها؟؟
لقد رفض الفلسطينيون والعرب عام 1937 عرض الانتداب البريطاني بقيام دولة فلسطينية واحدة بشرط أن يكون ربع السكان من اليهود، وبدلا من القبول، وضع مفتي فلسطين أمين الحسيني نفسه في ركب المحور الفاشي، فخسر، وخسرت فلسطين والعرب؛ ثم عارضوا شعار دولة فلسطينية موحدة للعرب واليهود بعد الحرب العالمية الثانية، فجاءهم قرار التقسيم، وشنوا عام 1948 حربهم الخاسرة على دولة إسرائيل48، التي قررت الأمم المتحدة قيامها، فكانت النتيجة خسران أراض جديدة كانت مخصصة للفلسطينيين بموجب قرار التقسيم. جاءت بعد ذلك حرب حزيران ليخسر الفلسطينيون القدس الشرقية، والضفة، وتخسر مصر وسوريا أراضي لهما، وعندما استرد السادات الأراضي المصرية المحتلة بالتفاوض، جوبه بموجة رسمية، وشعبية، من الاتهام بالتخوين، وتعرض لأقذع الشتائم.
على هذا النحو، كانت الفرص تضيع مرة بعد أخرى، وفي أواخر التسعينات الماضية خسر الفلسطينيون فرصة نادرة جديدة، حين عارضوا مشروع كلينتونndash; باراك بحضور عرفات، وكان يقضي برد معظم الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإيجاد صيغ عملية مرنة لموضوعي القدس واللاجئين. عارض عرفات، بعد عودته من أمريكا، مجاراة للمتطرفين، ثم ندم بعد ذاك لتفويت الفرصة.
إن منظمة حماس لم تشأ الاستفادة من كل هذه التجارب المريرة جدا والأليمة لكونها قامت أصلا على الرفض، ووضعت هدفا مستحيل التحقيق وهو استرداد كل أراضي فلسطين لما قبل التقسيم، وهذا مجرد عبث ضائع، لأنه لا قوة إسرائيل، ولا غطاء الشرعية الدولية، ولا موازين القوى، لتسمح بذلك. أما اليوم، وقد صارت حماس أداة للسياسات الإيرانية والسورية، وبعد انقلابها على الحكومة الشرعية، فإن الشعب الفلسطيني يواجه كوارث جديدة، وجديدة.
لقد ضيعنا الفرص، وراح المزايدون والمتطرفون يعتبرون كل مغامرة انتصارا مبينا، ومعهم الشارع. إن الحكومة الفلسطينية الشرعية هي اليوم في قفص الإحراج بسبب مغامرة حماس الجديدة بينما كانت المفاوضات السلمية تتقدم؛ والنتيجة، مسيل الدم الفلسطيني مجددا، ولكن من أجل ماذا!
لا نرى ضرورة لنضيف في التعليق على 'انتصار' حماس الجديد، أكثر مما ورد في المقال القيم للأستاذ نبيل شرف الدين في إيلاف تحت عنوان:
'هزم الفلسطينيون.. وانتصرت حماس'، [ تاريخ 4 مارس الجاري]، وهو مقال يعبر بدقة، وعمق، وجرأة، عما يفكر فيه الكتاب المحبون لفلسطين وقضيتها، وهم يقولون الحقيقة بجرأة من موقع الحرص على الشعب الفلسطيني.
نعم، لقد انتصر حزب الله، وهزم الاستقرار، والأمن، والشرعية في لبنان، وهدمت بناته التحتية، وانتصرت حماس اليوم، وسفك الدم الفلسطيني مدرارا، وتعثرت مؤقتا المفاوضات التي كان مأمولا منها أن تؤدي لقيام دولة فلسطينية بجوار إسرائيل. إن هذه الانتصارات لحزب الله، وحماس، وهمية، أما الخسائر فهي حقيقية ومن نصيب الشعبين الفلسطيني، واللبناني.
إن هذه 'الانتصارات' هي كانتصارات ' أم المعارك'، و'أم الحواسم' الصدامية، ولعل إخواننا في حماس، وحزب الله، قد تعلموا في مدرسة صدام المغامرة، مندفعين بالخطب الغوغائية الهائجة لأحمدي نجاد، الذي لم يطلق رصاصة واحدة، لا من اجل لبنان، ولا من أجل فلسطين، بل هي حروب بالوكالة، مع النظام السوري، على حساب الشعبين المنكوبين من دون إراقة قطرة دم إيرانية واحدة.
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه