لم تمض تسعة شهور على انتخاب الرئيس الفرنسي بالأكثرية حتى بدأت شعبيته بالهبوط خلال الأسابيع القليلة الماضية، وذلك حسب الاستطلاعات.
والواقع أن في المشهد السياسي الراهن مفارقات كبيرة، في مقدمتها أنه، بينما لا تزال أكثرية الفرنسيين تؤيد معظم الخطوات الإصلاحية التي وردت في برنامجه الانتخابي، وإقدامه على العمل لتطبيقها: كالتقاعد، وضبط الهجرة، والتحرك لحلحلة قانون 35 ساعات أسبوعيا، والصلابة تجاه الجريمة والإرهاب وغيرها؛ رغم ذلك كله، فإن شعبيته، كشخص، ومزاج، وبعض التصرفات، مثار نقد نسبة كبيرة من الفرنسيين. لا شك في أن هناك عوامل كثيرة لتفسير هذه المفارقة، بحيث صارت شعبية رئيس وزرائه أعلى من شعبيته بكثير، وإن هناك من يصفون الحالة ب'بمطاردة' سركوزي، كما كان السحرة يطارَدون في القرون الوسطى، وهناك من يتحدث عن 'المسلسل الأسود'!
إننا نتذكر كيف نظمت بعد لحظات من انتخابه، وللتعبير عن الغضب والمرارة، مظاهرة عنيفة في وسط باريس، بمبادرة من عناصر في أقصى اليسار، ومشاركة دعاة العنف في الضواحي، وسرعان ما تشكلت ضده بعد نجاحه جبهة سياسية، انضم لها، لأسباب شخصية، رئيس وزراء شيراك دوفيلفان.
إن من الواضح وجود تحفظات على بعض المواقف الشخصية غير المقبولة للرئيس الفرنسي، استغلت من الاشتراكيين، ووسائل الإعلام، استغلالا مهولا، وكان آخر ذلك ما وقع في صالون الزراعة بباريس حين أقدم أحدهم على إهانته علنا، فرد عليه بعبارة خشنة لا يليق التفوه بها من رئيس دولة ديمقراطية كبيرة. لقد تحول هذا الحدث لمحور الضجيج العالي لقادة الحزب الاشتراكي، ووسائل الإعلام، التي يكاد يغلب على موظفيها، لاسيما في التلفزيون، عناصر اليسار؛ وفي آخر استطلاع صحفي عبر 51 بالمائة من الفرنسيين عن صدمتهم لكلام سركوزي مقابل 47 بالمائة. في هذا الاستبيان أيضا، التي تجاهلته تقريبا محطات التلفزيون الفرنسي، عبر 59 بالمائة عن رأيهم في أن وسائل الإعلام هولت من الحدث، وقال 78 بالمائة إنهم يأسفون لأن وسائل الإعلام مهتمة بما هو عرضي وثانوي تاركة ما هو أساسي وجوهري. أما أحد الوزراء فقد علق على حادث الإهانة والجواب بقوله ' إن رئيس الجمهورية ليس ممسحة أقدام ليهان'، وكان شيراك قد تعرض لحالة مشابهة فرد بخشونة على من أهانه ولكن لم تقع في حينه ضجة كبرى كالجارية حاليا، ونعتقد أن إهانة أي شخص، بسيطا كان أو مسئولا كبيرا. والمس بكرامته، هو اعتداء مدان، واستفزاز.
كما صدم الفرنسيون أيضا لطريقة كشف خبر علاقته بكلارا، التي هي اليوم زوجته، وكانت مجلة إثارة قريبة من اليسار هي التي أخذت خلسة صورتهما معا ونشرتها. إن أمثال هذه العلاقة تمر عادة في فرنسا دون اهتمام كبير، فميتران كانت له سرا عشيقة ولدت منه ابنة مع أنه كان متزوجا، ولكن تلك العلاقة لم تصدم الفرنسيين عند انكشافها فيما بعد، بالعكس فيما لو حدث ذلك في أمريكا أو بريطانيا، فالثقافتان في هذه الأمور مختلفتان؛ كذلك كانت لشيراك مغامرات عاطفية معلومة ولكنها لم تستغل ضده، بل ظل يتمتع بسنة طيبة من الشعبية. أما بالنسبة لسركوزي، فهو من دعاة الشفافية المطلقة في كل شيء، ولذلك لم يُخف تلك العلاقة، ولكن الاشتراكيين استغلوا انتشار الخبر، معتبرين ذلك خطة متعمدة من الرئيس الفرنسي لصرف الأنظار عن إضراب عمال النقل، وهموم القوة الشرائية، مع أن المجلة القريبة من اليسار هي التي نشرت الخبر والصورة للإثارة، ولزيادة البيع، ثم كرّت مجلة 'النوفيل أوبزرفاتور' اليسارية للعودة للموضوع بشكل مثير. إن الازدواجية، والمفارقة، هنا تتمثلان في اتهام سركوزي بالتعمد في نشر الخبر لأسباب سياسية، وبين كون صحافة اليسار هي التي كانت المبادرة.
إذن فلماذا الضجة هنا، وعدم وقوع مثلها تجاه ميتران، وشيراك، رغم وجود نقد شعبي لهما في عدد من القضايا العامة والهامة؟
في رأينا أن من أسباب هبوط الشعبية، وعدا حملة المطاردة الاشتراكية، والمطاردة الإعلامية المحمومة، أن أساليب سركوزي، ومزاجه، والمبالغة في شفافية تصرفاته، هي التي تصدم نسبة كبيرة من الفرنسيين، الذين لم يتعودوا مثلا على هذا النمط من الشفافية الشخصية للرؤساء، وقد كان ميتران مصابا بمرض خطير ولكنه لم يعلن ذلك، مع أن المرض كان لابد وأن يؤثر على أدائه كرئيس؛ ومن الأسباب أيضا نشاط الرئيس الفرنسي العلني في كل الميادين، خارجا وداخلا، وتجاه كل المشاكل، بدلا من ترك مساحة تحرك واسعة لرئيس وزرائه والوزراء. إن هذا النمط من القيادة يجعله هدفا أول للنقد إذا تعثرت الخطوات، أو وقعت أخطاء.
إن ما مر لا يفسر كل شيء، إذ أن هذا الوجه في السياسة، وعند الرأي العام، ليس بالجانب الرئيسي الذي يجب الاهتمام الكبير به بيقظة، وتوجيه النقد والمحاسبة عند الضرورة،، بل إن القضية الجوهرية هي: هل يقوم سركوزي وحكومته بتنفيذ البرنامج الانتخابي الذي أيدته الأكثرية؟ وما هي سياسته الخارجية؟، وما موقفه من قانون العلمانية التي يؤكد من جانبه حرصه عليها في حين ثمة مؤشرات سلبية؟ إن مسألة العلمانية مثلا كانت جديرة بتصدر اهتمامات وسائل الإعلام بدلا من الضجة المستمرة على قولة نابية ردا على إهانة فظة، ولكن هذه القضية الجوهرية قد خفت النقاش حولها بعد وقت قصير من تصريحاته المتتالية أمام البابا، وفي السعودية، وبعدئذ.
يقول المراقبون المنصفون إن سركوزي قام بأعمال إصلاحية كبرى رغم قلة الوقت، ومن ذلك موضوع التقاعد، والحد الأدنى من الخدمات في حالة الإضرابات، وإصلاح الجامعات، وموضوع ضبط الهجرة، وتنشيط حملة المفاوضات بين النقابات، وأرباب العمل، والحكومة، وهي عملية ساهم فيها شخصيا بقوة، حتى أنه جلس مع الزعيم النقابي الشيوعي محاورا؛ كذلك النجاح في صياغة اتفاقية معدلة ومخففة للاتحاد الأوروبي، بدلا من المشروع السابق، الذي رفضته فرنسا، وهولندة، فلم يمر لأن الإجماع في الاتحاد مطلوب، وثمة رأي ينتقده لكونه لم ينفذ مشاريعه خلال فترة الأشهر التسعة، مستشهدين بما فعله الألماني شرودر في بلاده من إصلاحات اجتماعية، واقتصادية جريئة، وسريعة، ويرد آخرون بأن فرنسا ليست كألمانيا، ولا كبريطانيا زمن رئاسة تاشر، التي تحدت النقابات وإضراباتهم بصلابة 'حديدية'، كما كانت توصف. فرنسا عصية على الإصلاحات السريعة رغم علم الأكثرية بضرورتها، مثلما رأينا في موضوع التقاعد الخاص الذي فجر إضرابات عمال النقل، ولكن المهم أن كل الموضوعات الساخنة التي تهم الشعب قد جرى تحريكها برغم الصعوبات الجمة.
إن من سوء حظ الرئيس الفرنسي كونه انتخب في أصعب وضع اقتصادي دولي جراء ارتفاع أسعار النفط، وتدني سعر الدولار، مما ينعكس سلبا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في فرنسا، وفي بقية دول الاتحاد؛ أضف استمرار مشكلة القوة الشرائية الموروثة من العهود السابقة، مع وراثة عجز هائل في الميزانية، وقد كان متوقعا عند انتخابه أن تكون نسبة النمو الاقتصادي اثنين ونصفا ولكنه مع نهاية العام الماضي لم يتجاوز ال 2 بالمائة فقط. إن هذا العامل الاقتصادي هو، في رأينا، العامل الأول، والرئيسي في الاستياء الشعبي، الذي تغذيه حملات الحزب الاشتراكي، ووسائل الإعلام، وعلما بأن المواطن الفرنسي يريد نتائج سريعة وعاجلة لرفع مستواه المعيشي، ومعالجة الارتفاع المفاجئ لبعض المواد الغذائية الهامة، ولكنه لا يريد تحمل الصعوبات المطلوب تحملها والتي لا بد وتنتجها الإصلاحات.
إننا نلاحظ أيضا أن الحزب لاشتراكي هو أكثر الأحزاب الاشتراكية الغربية تكلسا، والأكثر تشنجا، وتطرفا سياسيا في المعارضة حين لا يكون في السلطة. إنه يتبع خط المعارضة المستمرة والشديدة لكل إجراء حكومي دون مراعاة ما إذا كان ضروريا، ولصالح البلد، أم لا، وليس من الصدف أن توني بلير حضر مؤتمر الحزب الديجولي، ولم يحضر أيا من مؤتمرات الحزب الاشتراكي، الذي وقف من بلير موقفا سلبيا متشنجا، لاسيما بسبب علاقاته مع الولايات المتحدة، والإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي نفذها من خارج القوالب اليسارية الجامدة، وكذلك سياسته الحازمة تجاه العنف، والجريمة، والإرهاب الإسلامي. لقد وقف الحزب الاشتراكي ضد ضبط الهجرة، مع أن ذلك مطلب غالبية الفرنسيين، وهو لا يزال محتفظا بمواقفه اللينة من الجريمة، فالمرشحة الاشتراكية للرئاسة رويال أدانت قيام البوليس مؤخرا بحملة اعتقالات في إحدى الضواحي لمجرمين كانوا قد اعتدوا على رجال البوليس بالرصاص الحي. إنها لم تصدر في حينه أي تصريح إدانة للمعتدين على الشرطة، وجرح بعض أفرادهم ولكن حملة الاعتقالات هي التي استفزتها!؛ وبالمناسبة، فإن الموضوع الأمني يعود للواجهة هذه الأيام بقوة على أثر اعتماد الجمعية الوطنية، ومجلس الشيوخ، لمشروع القانون الحكومي بتشديد العقوبات تجاه المجرمين الخطرين، خصوصا الذين كرروا الجريمة بعد إطلاق سراحهم، وبوجه أخص جرائم اغتصاب الأطفال والنساء. هذا القانون يقضي بزج أمثال هؤلاء بعد انتهاء أحكامهم في أماكن منعزلة خاصة، تمزج بين الاعتقال، والعلاج النفساني، وقد أقر المجلس الدستوري الأعلى بدستورية القانون، ولكنه دعا لتطبيقه ليس بأثر رجعي على المجرمين السجناء حاليا، بل في عام 2013، بينما كان سركوزي وحكومته يريدان التطبيق الفوري، وقد أظهر استبيان جرى منذ أيام، وتجاهلته وسائل الإعلام، أن 80 بالمائة من الفرنسيين يؤيدون موقف الحكومة في هذا الشأن. نلاحظ هنا أن هذا الاستبيان أيضا تعرض للإهمال في معظم وسائل الإعلام.
أما الموقف من العلاقات مع الولايات المتحدة، فلعله في مقدمة الأسباب الحقيقة لتشنج اليسار من سركوزي وحكومته، وقد سبق أن تعرض للنقد، والتشكيك بسبب زيارته للولايات المتحدة، ولقائه ببوش، إذ أن الثقافة السياسية الفرنسية، خصوصا اليسارية، مشبعة بمعاداة أمريكا، وكأن إقامة علاقات طبيعية وودية معها، بدلا من تشنج شيراك ورئيس وزرائه، تعني التبعية، والتحول لذيل واشنطن، مع أن الولايات المتحدة هي الحليف الأكبر في حلف الأطلسي، والعدو الأول للإرهاب الذي يهدد دول أوروبا الغربية أيضا لا أمريكا وحدها.
إن للرئيس الفرنسي إجراءات سيئة التوقيت، أي يمكن تأجيلها، ومنها أخيرا إثارة موضوع الموقف من الكنائس الجديدة التي تأسست من خارج أية ديانة؛ كما نشبت ضجة أثارتها دعوته لواجب قيام كل تلميذ، حتى في الابتدائية، بعرض سيرة أحد أطفال ضحايا النازية من اليهود. إن الضجة ليست لرفض كشف فظائع النازية باستمرار، بل النقد الشديد الذي ورد من المعلمين والمتخصصين، منصب على خطورة زج تلاميذ الابتدائية في عملية كهذه، لما سيكون من تأثير نفسي سلبي على طفل صغير حين تسرد له تفاصيل فظائع النازية، وأخيرا، وإزاء النقد، تقرر تحميل كل صف، لا كل تلميذ، هذا الواجب؛ ومن جانبنا، نتفق على مخاطر زج الأطفال في سرد المآسي والفظائع، أيا كانت، أما في الثانوية والجامعة فالأمر مختلف.
بعد هذا وذاك، يمكن القول إن الحكم النهائي على رئيس دولة ديمقراطية غربية لا يبنى على فترة شهور بل على حصيلة الأعمال خلال سنوات الرئاسة كلها، ولا تزال أمام سركوزي فرص معالجة الهبوط في شعبيته بشرط المثابرة على تنفيذ الإصلاحات الكبرى التي وعد بها، وبشرط ضبط وكبح مزاجه الاندفاعي.
والواقع أن في المشهد السياسي الراهن مفارقات كبيرة، في مقدمتها أنه، بينما لا تزال أكثرية الفرنسيين تؤيد معظم الخطوات الإصلاحية التي وردت في برنامجه الانتخابي، وإقدامه على العمل لتطبيقها: كالتقاعد، وضبط الهجرة، والتحرك لحلحلة قانون 35 ساعات أسبوعيا، والصلابة تجاه الجريمة والإرهاب وغيرها؛ رغم ذلك كله، فإن شعبيته، كشخص، ومزاج، وبعض التصرفات، مثار نقد نسبة كبيرة من الفرنسيين. لا شك في أن هناك عوامل كثيرة لتفسير هذه المفارقة، بحيث صارت شعبية رئيس وزرائه أعلى من شعبيته بكثير، وإن هناك من يصفون الحالة ب'بمطاردة' سركوزي، كما كان السحرة يطارَدون في القرون الوسطى، وهناك من يتحدث عن 'المسلسل الأسود'!
إننا نتذكر كيف نظمت بعد لحظات من انتخابه، وللتعبير عن الغضب والمرارة، مظاهرة عنيفة في وسط باريس، بمبادرة من عناصر في أقصى اليسار، ومشاركة دعاة العنف في الضواحي، وسرعان ما تشكلت ضده بعد نجاحه جبهة سياسية، انضم لها، لأسباب شخصية، رئيس وزراء شيراك دوفيلفان.
إن من الواضح وجود تحفظات على بعض المواقف الشخصية غير المقبولة للرئيس الفرنسي، استغلت من الاشتراكيين، ووسائل الإعلام، استغلالا مهولا، وكان آخر ذلك ما وقع في صالون الزراعة بباريس حين أقدم أحدهم على إهانته علنا، فرد عليه بعبارة خشنة لا يليق التفوه بها من رئيس دولة ديمقراطية كبيرة. لقد تحول هذا الحدث لمحور الضجيج العالي لقادة الحزب الاشتراكي، ووسائل الإعلام، التي يكاد يغلب على موظفيها، لاسيما في التلفزيون، عناصر اليسار؛ وفي آخر استطلاع صحفي عبر 51 بالمائة من الفرنسيين عن صدمتهم لكلام سركوزي مقابل 47 بالمائة. في هذا الاستبيان أيضا، التي تجاهلته تقريبا محطات التلفزيون الفرنسي، عبر 59 بالمائة عن رأيهم في أن وسائل الإعلام هولت من الحدث، وقال 78 بالمائة إنهم يأسفون لأن وسائل الإعلام مهتمة بما هو عرضي وثانوي تاركة ما هو أساسي وجوهري. أما أحد الوزراء فقد علق على حادث الإهانة والجواب بقوله ' إن رئيس الجمهورية ليس ممسحة أقدام ليهان'، وكان شيراك قد تعرض لحالة مشابهة فرد بخشونة على من أهانه ولكن لم تقع في حينه ضجة كبرى كالجارية حاليا، ونعتقد أن إهانة أي شخص، بسيطا كان أو مسئولا كبيرا. والمس بكرامته، هو اعتداء مدان، واستفزاز.
كما صدم الفرنسيون أيضا لطريقة كشف خبر علاقته بكلارا، التي هي اليوم زوجته، وكانت مجلة إثارة قريبة من اليسار هي التي أخذت خلسة صورتهما معا ونشرتها. إن أمثال هذه العلاقة تمر عادة في فرنسا دون اهتمام كبير، فميتران كانت له سرا عشيقة ولدت منه ابنة مع أنه كان متزوجا، ولكن تلك العلاقة لم تصدم الفرنسيين عند انكشافها فيما بعد، بالعكس فيما لو حدث ذلك في أمريكا أو بريطانيا، فالثقافتان في هذه الأمور مختلفتان؛ كذلك كانت لشيراك مغامرات عاطفية معلومة ولكنها لم تستغل ضده، بل ظل يتمتع بسنة طيبة من الشعبية. أما بالنسبة لسركوزي، فهو من دعاة الشفافية المطلقة في كل شيء، ولذلك لم يُخف تلك العلاقة، ولكن الاشتراكيين استغلوا انتشار الخبر، معتبرين ذلك خطة متعمدة من الرئيس الفرنسي لصرف الأنظار عن إضراب عمال النقل، وهموم القوة الشرائية، مع أن المجلة القريبة من اليسار هي التي نشرت الخبر والصورة للإثارة، ولزيادة البيع، ثم كرّت مجلة 'النوفيل أوبزرفاتور' اليسارية للعودة للموضوع بشكل مثير. إن الازدواجية، والمفارقة، هنا تتمثلان في اتهام سركوزي بالتعمد في نشر الخبر لأسباب سياسية، وبين كون صحافة اليسار هي التي كانت المبادرة.
إذن فلماذا الضجة هنا، وعدم وقوع مثلها تجاه ميتران، وشيراك، رغم وجود نقد شعبي لهما في عدد من القضايا العامة والهامة؟
في رأينا أن من أسباب هبوط الشعبية، وعدا حملة المطاردة الاشتراكية، والمطاردة الإعلامية المحمومة، أن أساليب سركوزي، ومزاجه، والمبالغة في شفافية تصرفاته، هي التي تصدم نسبة كبيرة من الفرنسيين، الذين لم يتعودوا مثلا على هذا النمط من الشفافية الشخصية للرؤساء، وقد كان ميتران مصابا بمرض خطير ولكنه لم يعلن ذلك، مع أن المرض كان لابد وأن يؤثر على أدائه كرئيس؛ ومن الأسباب أيضا نشاط الرئيس الفرنسي العلني في كل الميادين، خارجا وداخلا، وتجاه كل المشاكل، بدلا من ترك مساحة تحرك واسعة لرئيس وزرائه والوزراء. إن هذا النمط من القيادة يجعله هدفا أول للنقد إذا تعثرت الخطوات، أو وقعت أخطاء.
إن ما مر لا يفسر كل شيء، إذ أن هذا الوجه في السياسة، وعند الرأي العام، ليس بالجانب الرئيسي الذي يجب الاهتمام الكبير به بيقظة، وتوجيه النقد والمحاسبة عند الضرورة،، بل إن القضية الجوهرية هي: هل يقوم سركوزي وحكومته بتنفيذ البرنامج الانتخابي الذي أيدته الأكثرية؟ وما هي سياسته الخارجية؟، وما موقفه من قانون العلمانية التي يؤكد من جانبه حرصه عليها في حين ثمة مؤشرات سلبية؟ إن مسألة العلمانية مثلا كانت جديرة بتصدر اهتمامات وسائل الإعلام بدلا من الضجة المستمرة على قولة نابية ردا على إهانة فظة، ولكن هذه القضية الجوهرية قد خفت النقاش حولها بعد وقت قصير من تصريحاته المتتالية أمام البابا، وفي السعودية، وبعدئذ.
يقول المراقبون المنصفون إن سركوزي قام بأعمال إصلاحية كبرى رغم قلة الوقت، ومن ذلك موضوع التقاعد، والحد الأدنى من الخدمات في حالة الإضرابات، وإصلاح الجامعات، وموضوع ضبط الهجرة، وتنشيط حملة المفاوضات بين النقابات، وأرباب العمل، والحكومة، وهي عملية ساهم فيها شخصيا بقوة، حتى أنه جلس مع الزعيم النقابي الشيوعي محاورا؛ كذلك النجاح في صياغة اتفاقية معدلة ومخففة للاتحاد الأوروبي، بدلا من المشروع السابق، الذي رفضته فرنسا، وهولندة، فلم يمر لأن الإجماع في الاتحاد مطلوب، وثمة رأي ينتقده لكونه لم ينفذ مشاريعه خلال فترة الأشهر التسعة، مستشهدين بما فعله الألماني شرودر في بلاده من إصلاحات اجتماعية، واقتصادية جريئة، وسريعة، ويرد آخرون بأن فرنسا ليست كألمانيا، ولا كبريطانيا زمن رئاسة تاشر، التي تحدت النقابات وإضراباتهم بصلابة 'حديدية'، كما كانت توصف. فرنسا عصية على الإصلاحات السريعة رغم علم الأكثرية بضرورتها، مثلما رأينا في موضوع التقاعد الخاص الذي فجر إضرابات عمال النقل، ولكن المهم أن كل الموضوعات الساخنة التي تهم الشعب قد جرى تحريكها برغم الصعوبات الجمة.
إن من سوء حظ الرئيس الفرنسي كونه انتخب في أصعب وضع اقتصادي دولي جراء ارتفاع أسعار النفط، وتدني سعر الدولار، مما ينعكس سلبا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في فرنسا، وفي بقية دول الاتحاد؛ أضف استمرار مشكلة القوة الشرائية الموروثة من العهود السابقة، مع وراثة عجز هائل في الميزانية، وقد كان متوقعا عند انتخابه أن تكون نسبة النمو الاقتصادي اثنين ونصفا ولكنه مع نهاية العام الماضي لم يتجاوز ال 2 بالمائة فقط. إن هذا العامل الاقتصادي هو، في رأينا، العامل الأول، والرئيسي في الاستياء الشعبي، الذي تغذيه حملات الحزب الاشتراكي، ووسائل الإعلام، وعلما بأن المواطن الفرنسي يريد نتائج سريعة وعاجلة لرفع مستواه المعيشي، ومعالجة الارتفاع المفاجئ لبعض المواد الغذائية الهامة، ولكنه لا يريد تحمل الصعوبات المطلوب تحملها والتي لا بد وتنتجها الإصلاحات.
إننا نلاحظ أيضا أن الحزب لاشتراكي هو أكثر الأحزاب الاشتراكية الغربية تكلسا، والأكثر تشنجا، وتطرفا سياسيا في المعارضة حين لا يكون في السلطة. إنه يتبع خط المعارضة المستمرة والشديدة لكل إجراء حكومي دون مراعاة ما إذا كان ضروريا، ولصالح البلد، أم لا، وليس من الصدف أن توني بلير حضر مؤتمر الحزب الديجولي، ولم يحضر أيا من مؤتمرات الحزب الاشتراكي، الذي وقف من بلير موقفا سلبيا متشنجا، لاسيما بسبب علاقاته مع الولايات المتحدة، والإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي نفذها من خارج القوالب اليسارية الجامدة، وكذلك سياسته الحازمة تجاه العنف، والجريمة، والإرهاب الإسلامي. لقد وقف الحزب الاشتراكي ضد ضبط الهجرة، مع أن ذلك مطلب غالبية الفرنسيين، وهو لا يزال محتفظا بمواقفه اللينة من الجريمة، فالمرشحة الاشتراكية للرئاسة رويال أدانت قيام البوليس مؤخرا بحملة اعتقالات في إحدى الضواحي لمجرمين كانوا قد اعتدوا على رجال البوليس بالرصاص الحي. إنها لم تصدر في حينه أي تصريح إدانة للمعتدين على الشرطة، وجرح بعض أفرادهم ولكن حملة الاعتقالات هي التي استفزتها!؛ وبالمناسبة، فإن الموضوع الأمني يعود للواجهة هذه الأيام بقوة على أثر اعتماد الجمعية الوطنية، ومجلس الشيوخ، لمشروع القانون الحكومي بتشديد العقوبات تجاه المجرمين الخطرين، خصوصا الذين كرروا الجريمة بعد إطلاق سراحهم، وبوجه أخص جرائم اغتصاب الأطفال والنساء. هذا القانون يقضي بزج أمثال هؤلاء بعد انتهاء أحكامهم في أماكن منعزلة خاصة، تمزج بين الاعتقال، والعلاج النفساني، وقد أقر المجلس الدستوري الأعلى بدستورية القانون، ولكنه دعا لتطبيقه ليس بأثر رجعي على المجرمين السجناء حاليا، بل في عام 2013، بينما كان سركوزي وحكومته يريدان التطبيق الفوري، وقد أظهر استبيان جرى منذ أيام، وتجاهلته وسائل الإعلام، أن 80 بالمائة من الفرنسيين يؤيدون موقف الحكومة في هذا الشأن. نلاحظ هنا أن هذا الاستبيان أيضا تعرض للإهمال في معظم وسائل الإعلام.
أما الموقف من العلاقات مع الولايات المتحدة، فلعله في مقدمة الأسباب الحقيقة لتشنج اليسار من سركوزي وحكومته، وقد سبق أن تعرض للنقد، والتشكيك بسبب زيارته للولايات المتحدة، ولقائه ببوش، إذ أن الثقافة السياسية الفرنسية، خصوصا اليسارية، مشبعة بمعاداة أمريكا، وكأن إقامة علاقات طبيعية وودية معها، بدلا من تشنج شيراك ورئيس وزرائه، تعني التبعية، والتحول لذيل واشنطن، مع أن الولايات المتحدة هي الحليف الأكبر في حلف الأطلسي، والعدو الأول للإرهاب الذي يهدد دول أوروبا الغربية أيضا لا أمريكا وحدها.
إن للرئيس الفرنسي إجراءات سيئة التوقيت، أي يمكن تأجيلها، ومنها أخيرا إثارة موضوع الموقف من الكنائس الجديدة التي تأسست من خارج أية ديانة؛ كما نشبت ضجة أثارتها دعوته لواجب قيام كل تلميذ، حتى في الابتدائية، بعرض سيرة أحد أطفال ضحايا النازية من اليهود. إن الضجة ليست لرفض كشف فظائع النازية باستمرار، بل النقد الشديد الذي ورد من المعلمين والمتخصصين، منصب على خطورة زج تلاميذ الابتدائية في عملية كهذه، لما سيكون من تأثير نفسي سلبي على طفل صغير حين تسرد له تفاصيل فظائع النازية، وأخيرا، وإزاء النقد، تقرر تحميل كل صف، لا كل تلميذ، هذا الواجب؛ ومن جانبنا، نتفق على مخاطر زج الأطفال في سرد المآسي والفظائع، أيا كانت، أما في الثانوية والجامعة فالأمر مختلف.
بعد هذا وذاك، يمكن القول إن الحكم النهائي على رئيس دولة ديمقراطية غربية لا يبنى على فترة شهور بل على حصيلة الأعمال خلال سنوات الرئاسة كلها، ولا تزال أمام سركوزي فرص معالجة الهبوط في شعبيته بشرط المثابرة على تنفيذ الإصلاحات الكبرى التي وعد بها، وبشرط ضبط وكبح مزاجه الاندفاعي.
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
التعليقات