quot;وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبّين لهمquot; سورة ابراهيم- 4

في المثل السائر: الناس على دين آبائهم ثمة تحريف وانحياز لنظام الابوة السائد في كثير من المجتمعات، الاديان الابراهيمية مثال جليّ لها. ولعل الاكثر دقة وصوابا القول: الناس على دين امهاتهم.
***
الدين، حاله حالُ اللغة، يؤخذان رضاعة من صدر الام، او من فمِها، حيث يقيم الطفل في نعومة طينته الاولى تحت ظلال صدرها فيـُرسي قواعد بنيانه الديني واللغوي وتنمحي ذاته فيهما. وهما يختلفان طبيعة ً وسلوكا عن الدين واللغة اللذين يتلقاهما
الانسان في سن النضج باختيار.
***
يغيب كلّ من الدين واللغة في تلافيف بعضهما بعضاً غيابَ الماء في التراب ليُولـَد منهما الطين، المادة السحرية التي وهبتْ الحياة لكل ذي نفس حية
.
***
لا احد يعرف الزمن الذي بدأ الانسان فيه بالكلام. ولا احد كذلك يعرف الزمن الذي ظهرتْ فيه الاديان. لكنّ الأخيرة هي ثمرة اللغات، اذ لا يمكن تصور وجود دين دون لغة. بينما يمكن وجود لغة دون دين. فالدين يحتاج الى نظام سردي وفقاً لما يبرهنه كثير من علماء الانثروبولجيا الدينية، وهو ما تملكه اللغة بامتياز فيتكأ عليها الدين، ذلك الشيخ الهرم كي يُمكنه الوقوف على قدميه. نتحدث هنا بالطبع عن الدين كـ quot;مؤسسةquot; ووعي، وليس عن الدين في تجلـّيه الايماني الذي هو حالة لا شعورية.
***
اللغة كالنهريتغير مذاقه حسب الارض التي يمر بها ويصبح ماؤه اجاجا حين يقترب من قبره الابدي البحر. كذلك الدين. يأخذ ملامحمة من المجتمع الذي يقيم فيه الى ان يتنهي بموت الانسان، اي الاندماج الكلي مع الذات الالهية. الموت هو الدين الحقيقي لكل انسان.
***
كل لغة هي وحي مقدس. وحي من الله، او وحي من الشيطان، او مما يوحي به المرء لنفسه. يُولد من رحم الوحي الالهي النص الديني، ومن رحم الشيطان النص الفلسفي، ومن الرحم الثالثة النص الادبي الذي هو حال هيام بين الاثنين.

***
وحي الله يقين واطمئنان، اما وحي الشيطان فقلق واسئلة ملتهبة ورحلة اكتشاف وبحث مضنيين، وليس الادب الا برزخ فسيح بينهما.
***
في الادب، يتماوج النص ويتلوّن ويفقد هويته النوعية الخالية من الصفاء. الصفاء الذي يمتاز به كلّ من النص الديني او النص الفلسفي. حين يقترب الادب من الدين يصير سؤالا مغلقا. واذ يقترب من الفلسفة يتشابك ويتعتـّم في الذهنية والعلمية ويفقد بعضا من بريقه السحري، وحين يقيم في برزخه المقدس بينهما اقامة مائية شفافة يحافظ على جنسه كونه ادباً، اي مزيجا من الاثنين معا. وهو بينهما في حالة شد وجذب ابديين.
***
الوقوف بين الدين والفلسفة لا يتحقق الا في رحابة الادب الذي هو هسهسات روح حية مبتهجة بالحياة ومتسالمة مع كلّ من الدين والفلسفة. الادب هو الوسيط الروحي بينهما. وفيه نعثر على الايمان الحقيقي، الاقامة الابدية الجذلى بين الايمان واللايمان، لكي لا نقول الالحاد، لان الالحاد ايمان آخر بطريقة معاكسة، اذ انه جواب مغلق ومنته ايضا، مثـَلـُه مثلُ من يقول بجواب يقيني: أن الحقيقة الوحيدة في الوجود هي اللاحقيقة وهو ما يمكن ان ندعوه علمانية اصولية متشددة.
***
ومثلما تنمو اللغة وتتطور، كذلك الدين. المسيحية مثلا، هي حصيلة تحولات في مسيرة اليهودية حتى انتهت بتشييد هيكليتها المغايرة بل على الضد من اليهودية. اما الاسلام في (منظومتة التطبيقية) كما تجسدتْ في السلوك البشري عبر الزمن فهو تطورٌ طبيعي عن الاثنين، او هو محاولة، الى درجة ما، في التوفيق بينهما.
***
اليهودية جعلتْ من الله بشرا يغضب وينفعل ويزعل مثل طفل نزق. المسيحية جعلتْ من البشر الهاً نقيا معصوما ومكتملا. وجاء الاسلام كي يُقيم خيمته الرحيمة بين الديانتين. ولعله يحمل دورَ من يُصالح بينهما ويضع وردة بين سيفين. لكنّ اقامته للاسف الشديد لم تدم او تتحق فعليا الا في اوقات خاطفة، وها هو اليوم يتحول الى ديناميت حي، وصومعة للحروب والكراهية وخلق الاعداء وسيفا مسلطا بين وردتين تهمان بالعناق.
***
وفقا للنمو والتطور اعلاه، يمكن اعتبار المذاهب الاسلامية بمثابة اجنـّة او بيوضا دينية تحتاج الى وقت ودفء لتنمو وتصبح دينا مستقلا، او الى شروط أمان من عواقب التكفير او الى التضحية بفقد امتيازات الانتماء الى سلطة دينية مهيمنة توفر لها الحماية وتعفيها من حمولة الجزية.
***
ربما كان للبهائية والدرزية، اللذين هما تطور طبيعي للاسلام، فضيلة الجرأة، في اعلان مذهبيهما كدين جديد ومستقل.