في الزمانات القديمة للكتابة، ليس زمن الريشة والدواة بالطبع، بل زمن الورق واقلام بيك العظيم، ظلت حرية الكاتب مقيدة بفضاء الورقة المحدود. فما ان يفرغ من كتابة نصه حتى يتصلب النص كما كُتب في نسخته الاولى، وعليه ان يلوذ بورقه اخرى بيضاء بعذريتها لتبييض النص بالحذف او بإضافة بعض الجمل او المقتطفات، او بتقديم جملة او فقرة على اخرى. ومستعينا بسحرية الحبر الابيض لتغيير بعض الكلمات. مع ما في المشهد من اضاعة وقت ووجع راس. ورقة الكتابة، رغم جمالها وعذوبتها، ضيقة وضنكى، تحجّم خيال الكاتب وتشلّ افكاره.
كان الانقاذ الوحيد هو ظهور الكومبيوتر، اذ ان صفحتة الضوئية رحابة كبرى، وأفق لا حدود له، تخصّب ذهن الكاتب وتوسّع خياله. وصار هيـّناً تلافي الخطأ الطباعي او الاسلوبي وتصويبه بضربة خفيفة على الكيبورد مما رطّب ارواح الكتـّاب ومكّنهم من انجاز القفزة الكبيرة بالخروج من فضاء الورقة الضيق الى كونية فضاء الشاشة اللامحدود.
كان الانقاذ الوحيد هو ظهور الكومبيوتر، اذ ان صفحتة الضوئية رحابة كبرى، وأفق لا حدود له، تخصّب ذهن الكاتب وتوسّع خياله. وصار هيـّناً تلافي الخطأ الطباعي او الاسلوبي وتصويبه بضربة خفيفة على الكيبورد مما رطّب ارواح الكتـّاب ومكّنهم من انجاز القفزة الكبيرة بالخروج من فضاء الورقة الضيق الى كونية فضاء الشاشة اللامحدود.
لكن هذه القفزة الهائلة، وهي تشبه القفزة من فم الاسد، في عالمنا العربي، لم تمر دون ثمن باهض، تجسّدَ بالتضحية ببعض الحروف في اللغة المحكية، الجلفية، كما يحلو لجهابذة المد العروبي ان يسموها، كالجيم المصرية او القاف العراقية (وتكتبان بكاف عليها خط موازٍ لخرطومها) او الجيم العراقية ذات النقاط الثلاث، بعد انْ كانت متيسرة في آليات الطباعة البدائية الاولى، طريقة اللاينو، وقد شهدنا ظهور اعمال روائية وقصصية وشعرية باللغة المحكية كليا او جزئيا. النخلة والجيران لغائب طعمة فرمان، لكي لا نذكر سوى مثال واحد. فرغم ان الكيبورد قد وفّر علينا جهداً ووقتا كبيرين في الكتابة واقتطاف الشواهد بطريقة (الكوبي بيست)، ووهَبنا حرية بهيجة في مراجعة ما كتبناه وتشذيبه. حيث صارت الكتابة على الكومبيوتر امكاناً لا متناهياً لتصحيح النص واعادة كتابته، الا أنّه، للاسف الشديد، لم يشمل، كيبورد صخر quot;القوميquot;، ببركاته كل حروف لغتنا...حيث غابت عنه حروف اللغة (المحكية) وذهبتْ قرباناً لسلامة اللغة الفصحى ونقائها. علما انّ تلك الحروف ليست اجنبية او غريبة على جسد اللغة العربية، اذ تملك جذورها في اللهجات العربية التي اندثرتْ مع هيمنة لغة قريش في عصر سيادة القرآن كلغة وحيدة للعرب.
ان الهيمنة والالغاء القسري الذي يمارسه كيبورد صخر ضد اللهجات العربية يشابه تماما ذلك الالغاء او التوحيد القسري الذي اشرنا اليه اعلاه، والذي مارسته سلطة الخلافة الاولى، ما تسمى بعصر الخلفاء الراشدين ضد لغات القبائل العربية الاخرى وما رافق ذلك من خمود على المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية، اللهم الا على مستوى الازدهار العسكري والمالي الذي تدفق على السلطة من حصاد الغزوات الاسلامية، وليستْ ما تُعرف بحروب الردة الا محاولة رفض من بعض القبائل لذلك الضمّ القسري، مذبحة قبيلة مالك بين نويرة احد الامثلة البارزة على تلك الهيمنة القريشية، ومن يشك في الامر فليراجع التاريخ ليعرف ان ما يُسمى بعصر الازدهار العربي الاسلامي لم يبدأ الا مع القرن الثاني الهجري، اي بعد حوالي مئتي عام من الركود على كافة المستويات، وكان ذلك في عصر المأمون وبلغ مداه الاقصى في القرن الرابع الهجري، عصر الانسنة بتعبير محمد اركون. عصر مسكويه والتوحيدي وهو العصر الذي ادارتْ الدولة الاسلامية فيه وزارة فارسية، ما يعرف بالعصر البويهي، واسهمت فيه عقول من جهات العالم الاربعة، ومن ثم شهدنا التدهور الذي اعقب ذلك العصر باستلام الوزارة من قبل الاتراك، ما يسمى بالعصر السلجوقي، الذي ابتدأ معه العد التنازلي لتلك الفقاعة الحضارية.
لا اظن انّ غياب هذه الحروف من كيبورد صخر كان سهواً او خطأ عن حسن نية، بل انه لامر مقصود ومدبّر بليل صحراوي، نسَجته مغازلٌ عربية قُح، وما تزال تحرسه سيوف مسلولة ورماح مُشرعة، يمكن انْ نجد شواهده في العودة الى مقررات مؤتمر طرابلس الغرب في ليبيا في اواخر السبعينات حين اجتمع سدنة العروبة وكهّانها وعرافيها واجمعوا على تحريم نشرايّ نص في اللغة المحكية. كان يمكن تفهّم الامر لو اقتصر المنع على الوثائق الرسمية بسبب نتائجها القانونية لضمان الاعمال وتسيير شؤون العباد بشكل لا التباس فيه او سوء فهم بسبب اللهجة وتنوع مداليها، اما انْ يتعدى المنع الى الادب الذي هو تعبير ذاتي صرف لا تقوم عليه اية تبعات قانونية، فلا يعدو الامر سوى كونه اعجوبة اخرى تضاف الى اعجوبات الزمن القومي الذي يكاد يلفظ آخر انفاسه تحت صفعات عصر العولمة وثورة المعلومات لينكفئ مدحورا في جوف ديناصور متحجر. الا ان غبار حوافر خيله الحديدية، مازالت تعشو الابصار وتقيد الفكر متمثلة بهذا الكيبورد المتسلط بنزعة شوفينية.
ليس هذا النص بالطبع تبشيرا للكتابة بالعامية، فليس هذا مقصد الكلام، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، هو كيف يمكن لاديب انْ يكتب، اذا شاء، نصا باللغة المحكية، او فيه بعض كلمات محكية... في الرواية والشعر والقصة او في مجال الترجمة التي تتطلب احيانا استخدام كلمات عامية كي quot;تكافئquot; النص الاصلي الذي تردُ فيه تعبيرات عامية ولا يجد ما يكافئها الا في التعبير اليومي الدارج، مع انه لا يملك سوى هذا الكيبورد القاصر العنيد الذي يحول دون ذلك.
اعتقد ان هنري ميشو، وربما واحد غيره، مَن قال انّ الشعر التقاط لكلام المارة. فكيف يمكن التقاط كلام المارة في منتوجنا الشعري والادبي عموما، دون ان تكون هنالك لوحة ازرار تحمل حروف ذلك الكلام؟
ربما نحن في حاجة ملحّة الى التفاتة مهندس quot;ديمقراطيquot; يجعل النظام الكتابي بالعربية ضامّا لحروفنا quot;غير الرسميةquot;. ويجعلنا قادرين على تدوين كلامنا اليومي العابر في حقلنا الادبي والثقافي وهو، في آخر الامر، اثراء للغة الفصحى وتنمية لقاموسها وتوسيع لافقها. وله منا، ذلك المهندس، الف شكر، وله من الله البركات والثواب.
التعليقات