quot;لا تكتمل غلبة اللاعنف إلا بفعلٍ إنساني؛ لأنه عودة الى حالةِ الانسان الطبيعيّة الفطرية قبل انهيار ملكوت روحه ووحدة كيانه... فالعنف يتجسد في كل سلوك او تصرّفٍ لا يتساوق مع الوعي وهو يشير الى ضياع العقل الإنسانيquot; (ندرة اليازجي)
ِفي ظلِّ تنامي خطاب العنف في المجتمعات الانسانية وزيادة التوترات في العلاقات الدولية، يبقى للمرء مخرجًا يضفي على وجوده معنى يصرف عنه الأذى والعدوان، فالتحرك الانساني لإيقاف عجلة الاضطهاد ورفع المظالم عن الكائنات الإنسانية واعتماد استراتيجية فاعلة من أجل العدالة، لسوف تنقذ مستقبلنا الذي يشير الى خلاصة العنف القائم حاليًّا وحاضرًا، الممتد عبر الماضي، الذي يكتنز إرثًا لا يستهان به من الحروب.
فإن التاريخ بوصفه أحقابـًا سلطويةً متصارعةً، سواء كانت ثورةً ام توسّع ملك، أوغزوة، او حربًا، او فتحًا... فإنها تتلخص بصراع سلطة، ومحاولة سيطرة فرد على فرد آخر وإرغامه على الدخول طوعًا أو كرهًا تحت نطاق سيادته، بكل ما يحتويه هذا المعنى من معاني العبودية والقسوة والإذلال والسيطرة...
ولعل المشهد الاسرائيلي الفلسطيني، صورة حيّة ونموذجًا لصراع يعد من أكثر الصرعات الانسانية مرارة على مر العصور، ولطالما تبنى الجانب الفلسطيني الخيار المسلح على حساب الخيارات الاخرى في محاولة منه لرفع الظلم واسترداد الحق، في وقت أدت فيه الملكية الغير العادلة والاعتداء على ممتلكات الآخرين وحقوقهم المادية والمعنوية وطردهم من ارضهم، الى خبرات انسانية مؤلمة عند كلا الجانبين.
وبعد مرور الأزمان وتعاقبها، فإنه حري بنا أن نتأمل قليلا ايقاع أحداث العنف والعنف المضاد، إنها عجلة متسارعة ومتنامية لا تزيد في الصراع الا حدّة والوضع اليوم، أشبه ما يكون بحلقة تدور رحاها بين مفردات ثلاثquot; اجتياح اسرائيليndash; صواريخ حماس ndash; حصار انساني خانقquot;، هذه المفردات لا تخلف وراءها الا مزيدًا من quot; إراقة الدماء ndash; العنف ndash; العنف المضادquot;، مع ما تحمله من مشاعر سلبية من كراهية وحقد ورغبة في الانتقام في ظلّ غياب تام للسلام والعدالة وتكالب مميت على السلطة، كل ذلك حولّ الوضع لا سيما في قطاع غزّة الى بؤرة من الطاقة السلبية المنصبة والمنعكسة المدمرة حيث تتجسد معاناة الانسان بأبشع صورها.
فهل يمكن الارتكاز على انسانية الكائن الانساني لرفع المظالم؟ وهل يمكن توليد فلسفة أخلاقية تعتمد على وجود النور الداخلي في قلب الكائنات الانسانية للخروج من دوامة العنف؟؟؟
كسر الحصار بصيص ضوءٍ في الأفق:
وفي حادثة وصفت في وسائل الاعلام بالغير مسبوقة، وصلت مرفأ غزة مؤخرًا سفينتي quot;الحرية quot; وquot;غزة الحرةquot;، في اطار تحرك انساني لquot;كسر الحصارquot;، وهما تحملان 44 ناشطًا لا يعنيهم من الصراع شيئًا سوى أنهم آمنوا أن ما يجري في غزة هو عبارة عن جريمة ضد الانسانية يجب خرقها بوسائل سلمية، فتحدّوا الحظر الاسرائيلي برغم شتى أنواع التشويش والعرقلة، وهدفهم ايصال مساعدات طبيّة و200 قطعة من الأطراف الصناعية، لقد حاول نشطاء السلام هؤلاء وهم من أديان متنوعة ان يثبتوا للعالم، أن ضمير الانسان الحي ما زال موجودًا، وأنه قادر على تحدي العنف بسلام يُطوّق الظلم وينتج المحبّة والوئام.
لعل استراتيجية التحرك السلمي والتدخل المدني تلك، تجربة تعكس التطور النوعي في الوعي الانساني، وهي تجربة يجب ان توّظف وتنمّى في كل دول العالم عبر نشر الوعي بالقيم الكونية والوجودية للانسان اينما كان مما يؤدي الى تشكيل رأي عام شعبي عالمي مناهض للعنف والحروب.
إن الاعلان للطابع اللاعنفي لتدخل المنظمات الانسانية يشكل ورقةً رابحةً جدًّا ومهمة للغاية، من اجل الاستفادة من مؤازرة الداخل الإسرائيلي والفلسطيني على حد سواء؛ لانه سينزع فتيل الحذر عند الجانب الفلسطيني، كما سينزع فتيل الرفض المحتمل عند الجانب الاسرائيلي، وسيولد جوًّا من الثقة بالخيارات السلمية الانسانية التي لا علاقة لها بمصالح الدول وموازين القوى المنبنية على العنف وشهوة السيطرة التي يذهب ضحيتها الانسان من الطرفين.
فهل يمكن لنا ان نعّول على التراث الروحي اليهودي واحراج الاسرائيلي أخلاقيًّا أمام المجتمع الدولي لوقف ممارسات العدوان؟؟؟ فما الذي سيفعله أمام سيدة تمانع بصمت وتقف امام جرافة تصادر أرضًا أو تقتلع شجرة؟؟ وما تراه فاعلا لمن يضيئ شمعة أمام معبد قديم يصلي من أجل السلام؟؟ وماذا سيفعل لطائرة محملّة بالأدوية والمساعدات الانسانية؟؟؟
العودة الى الروح!
إنّ الحقائق كلها تشير الى أنّ أي كائن بشري يجمع في كينونته المادة، علاوة على عمق روحي يرقى به بوصفه انسانًا عن عالم الحيوان الى عقل ووعي المدرك.
ولا شك في ان العدالة والحكمة وعلم quot;القبالة quot; جزءًا من معتقدات اليهود فلماذا لا يستثمر الجانب الروحي اليهودي من اجل وقف العنف؟؟؟
ومن الجانب الاخر فإن مفاهيم العدالة والتسامح والسلام كلها من مرتكزات العقيدة الاسلامية فلماذا لا يستثمر الجانب الروحي والتراث الصوفي الهائل المنبني على وحدة الكائن الانساني ووحدة الوجود من اجل ترسيخ التسامح والسلام؟؟؟
في سياق مشابه يشير الدالاي لاما بالقول:quot;ان جوهر الممارسة الروحية هو موقفنا تجاه الاخرين فعندما يكون المرء نقيًّا وصادقًا يكون من الآخرين موقفه طيبًا، موسومًا بالرحمة والمحبة، والاحترام، إن الممارسة تعطينا وعيًا واضحًا لوحدة البشر قاطبة ولأهمية أن يفيد الآخرون من أعمالنا quot;
ان تنشيط الوعي العقلاني واستنهاض الروح يسمو بالانسان عن العنف المادي، لذلك فإن الخطب النارية quot;العربيةquot; التي تريد quot;ان تمسح اسرائيل عن الوجودquot; هي التي خدمت العنف الإسرائيلي ومنحته الشرعية quot;الدوليةquot;.
والمتطلع الذي يسبر عمق الخطاب الاسرائيلي على مدى الأعوام السابقة يستشف محاولات اسرائيل المتكررة لفصل الفلسطينيين عن تراثهم الروحي المتسامح ولإلغاء حقبة عاش فيها اتباع الأديان كافة بمودة بالغة، فاسرائيل تعمد من خلال حصارها واذلالها للانسان واخافتها له، الى فصل الانسان عن روحه فيستسلم عندها للخوف؛ والخائف لا يمكن له ان يبني سلام، لانه ينتج مواقفًا غريزية على شكل ردود افعال لا مكان للعقل الواعي فيها.
ان عملية كسر الحصار تعني كسر الخوف وتحدي الألم بالسلام، وعندما يقرر زهاء مليون شخص في غزة تحدي الخوف وكسر الحصار بشكل سلمي، هذا الأمر سيحرر الناس من خوفهم من جهة وسيحرج الجانب الاسرائيلي كون التحرك سلمي مدني لا عنفي.
أفكر دومًا باليهود الذين اضطهدوا خلال التاريخ كيف يعيدون ممارسة الاضطهاد بحق غيرهم؟؟ فلماذا يلجأ من تعرض لمآسي quot;المحرقةquot; ان يُجرّع الآخرين مآسي quot;المجاعةquot;؟؟؟ ألم يكن ذلك حافزًا لهم لعدم اسقاط العنف الذي تعرضوا له على اشقائهم في الانسانية؟؟وأتساءل ألم يساهم quot;الكفاح المسلح quot; في تأجيج العنف واعطاء الذرائع للمعتدي بالتمادي في عدوانه؟؟
إننا كأفراد نؤمن باللاعنف، ونعيش في دولٍ quot;عربيةquot; لا نعوّل كثيرًا على أنظمتنا العربية، التي احترفت العنف والخداع بحق ابنائها وتعاني فوبيا وخوفًا رهيبًا من quot;رعاة السياسات الخارجيةquot;، ولا نتوقع منها دعمًا للأنشطة الانسانية، فهي أعجز وأجبن من ان تعمد الى اتخاذ موقف سلمي شجاع؛ كما اننا لا نعوّل على دول خارجيّة تدّعي بأنها تعمل من أجل احلال السلام وهي تجيز لنفسها امتلاك الاسلحة النووية كما تسخدم القوة الغاشمة وتعمل على استنزاف البشرية؛ فالسلام والديموقراطية والحريات لا تتحق بإراقة الدماء ولا بوسائل الشر والعنف، وهذه الدول وطدت وبنت علاقاتها الخارجية على نزعة الصراع والسيطرة.
رهاننا الاول على حرية روح الانسان أيًّا كان ولأي ارضٍ او دين انتمى وأينما وُجد، رفض ان ينساق لشهوة المادة وعنف السلطة وآثر الوعي والمحبة والسلام ؛ انها يقظة روح لمن كان له قلب او ألقى السمع وهو شهيد!

[email protected]
http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com