خطأ حماس المؤسس كان انقلابها الميليشاوي على الشرعية الفلسطينية الذي قام به قائد كتائب القسام احمد الجعبري ووزير داخلية حماس سعيد صيام ضد إرادة أغلبية قيادة حماس المدنية التي وُضعت أمام الأمر الواقع، وكما يحدث غالبا مع منطق الانقلاب العسكري، تغلّبت حجة القوة على قوة الحجة. من quot;أمّ الأخطاءquot; بدأت الأخطاء المميتة تتناسل من رفض المشروع المصري للمصالحة الوطنية الفلسطينية إلى رفض تجديد التهدئة. هذا الخطأ الأخير كان مناسبة قدمتها قيادة حماس على طبق من ذهب لقيادة الأركان الإسرائيلية لتشن حربا مفتوحة ودامية على غزة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية ومنها، كما حلّلها، المحلل المصري الاستراتيجي اللواء عمر سليمان، فرض منطقة منزوعة السلاح بين غزة وإسرائيل تحول دون وصول الصواريخ إلى البلدات الإسرائيلية المتاخمة وترميم مصداقية الردع العسكري الإسرائيلي التي تصدّعت في حرب 2006 ضد حزب الله.
الخطأ المؤسس للخطأ المؤسس وما تناسل منه من أخطاء هو تخلّف صناعة القرار الذي كان ومازال ماركة عربية إسلامية مسجلة. عبد الناصر اتخذ في مايو 1967 قراره بطرد القوات الدولية المرابطة على الحدود مع إسرائيل لمجرد تكذيب تعيير حزب البعث السوري له بـquot;الجبنquot; من محاربة إسرائيل. فقدم لقيادة الأركان الإسرائيلية والأمريكية الذريعة المثالية لحرب وهزيمة 67 التي كانت منذ ذاك سبب مآسينا التي لم تتم فصولا؛ بالمثل، صدام اتخذ قراره غزو الكويت تحقيقا لـquot;حلمquot; رآه في المنام مقدما هكذا لواشنطن الفرصة السانحة لتلقينه وتلقين أمثاله درسا في الانضباط... وهلّم هذيانا في صناعة القرار. صانع القرار في حماس لا يختلف عن سلفيْه. لأنه ليس معهدا متخصصا في صناعة القرار يستخدم العقول الالكترونية بدلا من فقه الجهاد؛ ولا حتى مجموعة من المستشارين الاستراتيجيين والسياسيين النابهين. بل الصانع الوحيد لقرار حماس هو مزاج القيادة ووَساوسها ورغباتها المقطوعة من الواقع. ومن يزرع القرارات الخاطئة يحصد الدمّع والدّم والهزائم فضلا عن ذلك! تجربة صنع القرار في العالم العربي، من عبد الناصر إلى حماس مرورا بصدام حسين، تتطلب من النخب الفكرية والسياسية أن تجعلها على رأس اهتماماتها. فمن دون صناعة قرار واقعي بمواصفات دولية لا أمل في الخروج من تأخرنا التاريخي.
لو أن حماس صنعت، منذ تأسيسها في 1987، قرارا واقعيا لما أضاعت 21 عاما وعشرات ملايين البترودولارات وكتائب بكاملها من القتلى في ملاحقة هدف هاذ: تحرير فلسطين حتى آخر ذرة تراب وإعادتها وقفا على جميع المسلمين في العالم كما يقول ميثاقها الذي لا شك أن عقلاء حماس ينظرون اليه اليوم كلعنة تطاردهم. حتى بعد تغيير الهدف النهائي من تحرير فلسطين الانتدابية الى تحرير الأراضي المحتلة في حرب 67 فإن وسيلة تحقيقه تُنافيه؛ عشية شن إسرائيل الحرب على غزة، صرح خالد مشعل للكاتب اليهودي مارك هالتير الذي التقاه في دمشق: quot;نحن مع دولة فلسطينية في حدود 4 يونيو 67. لكن quot;بالقوة العسكريةquot; وليس بالمفاوضات!

مشكلة حماس أو حزب الله أو إيران اليوم مثل كثير من الدول العربية هي أنها ما زالت تصنع قرارها الاستراتيجي والسياسي بطريقة بدائية، والحال أن المنظمات السياسية وحتى الشركات التجارية فضلا عن الدول تصنع قرارها بمؤسسات تضع أمام القيادة الامكانيات والخيارات والنتائج المحتملة لكل خيار لتطبيقها. لو كانت حماس تملك مثل هذه المؤسسة المختصة في صناعة القرار لتجنبت الوقوع في الأخطاء المميتة التي ارتكبتها حتى الآن، ولادركت أن المفاوضات هي الطريق الواقعي للدولة الفلسطينية وليس الانتفاضة الفلسطينية الثالثة والانتفاضات العربية من المحيط الى الخليج التي يتوقعها خالد مشعل؛ ولأدركت أن تجديد الهدنة هو الخيار الوحيد الصحيح الكفيل بوقاية فلسطين والشرق الأوسط من عواقب رفض تجديدها الكارثية. بكل شجاعة سياسية، تقطع مع سياسة الوجهين التي تمارسها بعض القيادات العربية التي تطلب سرا من إسرائيل القضاء على حماس وتتباكى علنا على quot;العدوان على غزةquot;، قال الرئيس الفلسطيني، محمود عباس: quot;عدم تثبيت التهدئة هو السبب المباشر فيما تعرضت له غزة من عدوانquot;. لأول مرة يتكلم قائد فلسطيني مع شعبه بلغة الحقيقة الوحيدة التي تساعده على النضج السياسي بدلا من التظلم الطفولي. حتى الأمس القريب كانت حماس تقتل أعضاء الجهاد الإسلامي الذين يحاولون انتهاك الهدنة حتى استحقت لقب quot;حارسة حدود إسرائيلquot;. وفجأة، عكسا لما كان متوقعا منها، تعلن رفض تجديدها قارنة القول بالفعل بإطلاق 180 صاروخا على البلدات الإسرائيلية المتاخمة. وكان ذلك دعوة للجيش الإسرائيلي للرد، كما لو كانت قيادة حماس قد نصبت له فخا تستدرجه اليه والحال أنها لم تفخخ إلا نفسها وشعب غزة الشهيد رغم أنفه! لو كانت حماس ndash; وهي قادرة على ذلك لو توفرت لديها الشجاعة السياسية ndash; تصنع قرارها بواقعية لما ظلّت طوال 21 عاما من عمرها تمارس سياسة الأسوأ التي تخصص فيها أقصى اليمين الفاشي في الغرب. في 1994 اسقطت بسيارتيها المفخختين، عشية الانتخابات التشريعية، شمعون بيريس منتخبة بدلا منه نتنياهو لإفشال مشروع السلام الفلسطيني الإسرائيلي الوليد. ومن يدري قد يكون من دواعي رفض حماس تجديد التهدئة، حماس التي هادنت إسرائيل منذ فوزها في الانتخابات التشريعية سنة 2006 فلم تقم بعملية انتحارية واحدة، انتخاب نتنياهو، هذه المرة أيضا، مؤمّلة نسف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية ومشروع السلام السوري الإسرائيلي وربما جرا المنطقة إلى حرب إقليمية يشارك فيها حزب الله وإيران وسورية لتصبح الصومال في كل مكان.
في غياب العقل الذي يضع الغرائز البدائية في عقاله، تنفلت هذه الغرائز في كل اتجاه كفيل يتجول في دكّان خزف صيني. سياسة الأسوأ التي ما فتئت حماس تمارسها نتيجة منطقية لعجز قيادتها عن التفكير المنطقي. خالد مشعل يصرح لمارك هالتر، قبيل الهجوم على غزة ببضع ساعات: quot;الأزمة (المالية والاقتصادية العالمية)، تنبأ مشعل، ستزيد الجماهير العربية فقرا، وستبحث هذه الجماهير عن قضية عادلة تقاتل الأنظمة العربية تحت رايتها، وهذه القضية هي القضية الفلسطينيةquot;. تعليق تحرير فلسطين بأمنية حدوث انتفاضة عربية شاملة من المحيط إلى الخليج أقل احتمالية من ربح متشرد باريسي للجائزة الأولى في اليانصيب! لكن على الأنظمة التي تجعل quot;بطولاتquot; حماس تتصدّر أعلامها أن تأخذ علما بما تبيّته حماس لها. قال الجنرال الفلسطيني، جبريل الرحوب،: quot;غزة كان يجب أن تكون سنغافورة لكن الفلتان الأمني حوّلها الى صومال فأدى إلى نفور الاستثمارquot; في ظل فوضى حماس المنظمة. وها هو رئيس حماس يتمنى أن تتحول جميع البلدان العربية، وخاصة مصر التي يتمنّى لها في الواقع ما تمناه لها في الخيال كتبة سفر الخروج من جروح ومصائب، أن تتحول إلى غزة المُصوْملة! بمنطق سياسة الأسوأ التي غدت طبيعة ثانية في صناعة قرار حماس العشوائي، لم يستطع إسماعيل هنية كبت تمنياته بالإبادة لشعب غزة فصرح: quot;لن نتراجع (=عن تجديد التهدئة) حتى ولو أبادوا غزة بأكملهاquot;! ذروة العناد الذُهاني. الحبر الذي كتب به قرار حماس الجنوني، غير القابل للنسخ، أغلى مندمّquot;سكان غزة بأكملهاquot; الذين ذهبوا وسيذهبون ضحيته! تاريخ الفاشيين الأوروبيين بالأمس والفاشيين الإسلاميين اليوم يعلمنا أن غريزة الموت أخْذا وعطاء، نحرا وانتحارا، تدفعهم قهريا إلى الاستخفاف بالحياة، حياتهم وحياة شعوبهم وشعوب أعدائهم. الأمنية الوحيدة هي الموت ولا يهم كثيرا من يكون الميت. كان الشعار المركزي لكتائب الموت الفرانكوية، في الحرب الأهلية الأسبانية سنة 1936: quot;يحيا الموتquot; وتموت الحياة!
فما هي احتمالات رفض حماس لتجديد التهدئة؟ استسلام حماس لشروط قيادة الأركان الإسرائيلية: قبول تجديد التهدئة بشروطها المذلة مما يجعل هزيمة حماس واضحة ويعيد قوة الردع، التي اهتزت في حرب 2006، للجيش الإسرائيلي؟ إعادة احتلال غزة للقضاء على حماس؟. لكن القضاء على حماس يتطلب ثمنا إسرائيليا وفلسطينيا باهظا قد لا يكون في قدرة الجيش الإسرائيلي تحمله؛ اضف الى ذلك أن منظّري ليكود وسياسييه، وعلى رأسهم نتنياهو ومعهم جناح من المؤسسة الأمنية، مازالوا يراهنون على الخيار الأردنيquot; أي إعادة الضفة للأردن، لايريدون القضاء على حماس بل فقط أضعافها أمام إسرائيل وابقاءها قوية أمام السلطة الفلسطينية للحيلولة دون المصالحة الوطنية الفلسطينية وتاليا ظهور قيادة برأس واحد تلبي شروط الرباعية لمفاوضات الحل النهائي. لكن للحرب منطقها الخاص الذي غالبا ما يجر من شنوها إلى نتائج ما كانوا يتوقعونها أو يتمنونها.
حماس اليوم هي جزء من المشكلة وستظل كذلك إلى مستقبل غير منظور مادام عقلاؤها اخفت صوتا من سفهائها. لن نصبح جزء من الحل إلا إذا فرضت عليها الدول العربية، شرط تخليها عن جبنها السياسي وحساباتها القصيرة النظر، المصالحة الوطنية وانتخاب قيادة فلسطينية برأس واحد وقرار واحد. في غياب ذلك ستستمر المذبحة ليس في غزة وحسب بل في الضفة ولبنان وبلدان أخرى أيضا وسيواصل الشرق الأوسط نزوله الى الجحيم.

فائدة: quot;الجنة غير موجودة أما الجحيم فنحن فيهquot; قال سارتر.