إعلان صاحب الجلالة محمد السادس في ذكرى مصادقة الأمم المتحدة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يوم 10/12/1948، quot;سحب المغرب لجميع تحفظاته عن الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأةquot;، يعتبر يوما تاريخيا في تاريخ تحرير المرأة المغربية من رواسب التقاليد المعادية للمرأة التي لا تستمد شرعيتها إلا من عتاقتها واستبطان الوعي الجمعي الإسلامي المعادي للمرأة لها. وحدها الدول الإسلامية ndash; وخاصة العربية منها - تحفظت على هذه الاتفاقية منذ مصادقة الأمم المتحدة عليها في 1973. ووحدها ظلت طوال 35 عاما مصرة على تحفظاتها التي هي عمليا رفض لتطبيق أهم أحكامها مثل المساواة في الإرث.
فما العمل لكي لا يبقى هذا القرار الشجاع حبرا على ورق؟ استلهام التجربة التونسية الفريدة حتى الآن في مجال تحرير المرأة من العوائق التقليدية والثقافية المعادية لتحررها. منذ فجر الاستقلال، ادركت النخبة التونسية أن تطبيق مشروعها الحداثي التنويري يتطلب تحديث قوانين الأحوال الشخصية وتحديث الخطابين التعليمي والإعلامي لخلق ثقافة مضادة للثقافة السائدة المعادية لحقوق المرأة. وهكذا صدرت مجلة (= مدونة) الأحوال الشخصية بعد، شهور فقط من الاستقلال. وخلال 24 شهرا تم توحيد وترشيد وتحديث التعليم. أما الإعلام، الصحافة والإذاعة، - لم تكن التلفزة قد دخلت بعد -، فقد تم تجنيده لإعادة صياغة الوعي الجمعي، بما فيه وعي المرأة نفسها التي استبطنت رأي جلاديها فيها. وكان خطاب بورقيبة الأسبوعي في الإذاعة مرصودا أيضا لهذه الغاية. بالمثل، غداة 7 نوفمبر 1987 الذي كان استئنافا وتجديدا للمشروع التونسي الحداثي والتنويري الذي بدأ يتآكل تحت مرض وشيخوخة بورقيبة وتغوُّل الاتجاه الديني الظلامي المعادي للمرأة. خلال شهور قليلة ألغيت التربية القديمة المعادية للمرأة وعوِّضت بمشروع تربوي حداثي مستنير متكامل نادر في أرض الإسلام. في الوقت ذاته أصدر الرئيس زين العابدين بن علي سلسلة قوانين لمزيد تحديث مجلة الأحوال الشخصية بتكثيف حضور المرأة في المؤسسات الثلاث التنفيذية، التشريعية والقضائية؛ وهكذا فالمرأة التونسية تمثل اليوم 23% من أعضاء مجلس النواب، و24% من أعضاء السلك الدبلوماسي، و22% من القضاة و31%من المحاماة. إذْ من دون دمج المرأة في المجتمع السياسي لتشارك في صنع وتنفيذ القرار، يصعب دمجها بكثافة وسرعة المجتمع المدني. وفي 1993 أصدر الرئيس بن علي قانونا فريدا في أرض الإسلام يلغي رئاسة الزوج للعائلة وتبعية المرأة له، تبعية العبد للسيد، معوضا له بشراكة الرجل والمرأة في رئاسة العائلة لصالح الأطفال. وفي 2002 اصدر قانونا آخر اعتبر حقوق المرأة جزءا لا يتجزأ من حقوق الإنسان الشاملة... فضلا عن تكريس حقوق المرأة في قانون القوانين: الدستور؛ إذ تم سنة 1997 تنقيح المادة 8 من الدستور كالتالي: quot;على الأحزاب السياسية أن تحترم سيادة الشعب وقيم الجمهورية وحقوق الإنسان والمبادئ المتعلقة بالأحوال الشخصية، وتلتزم بنبذ كل أشكال العنف والتطرف والعنصرية وكل أوجه التمييز..quot; بما فيها طبعا التمييز ضد المرأة.
quot;سحب المغرب لجميع تحفظاته عن الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأةquot; يتطلّب الشروع الفوري والمكثف في دمج المرأة في المجتمعين السياسي والمدني بالتشريع ودمج شرعية حقوقها، بالتعليم والإعلام، في الوعي الجمعي المغربي الذي ما زال، على غرار الوعي الجمعي في أرض الإسلام، متأثرا بالمركزية الرجولية Androcentrisme التي سجنت المرأة في دوريْ الإنجاب والعناية بالشأن المنزلي: أما وَلودا وربة بيت مطيعة والباقي تفاصيل. وكل محاولة لتغيير وتبادل الأدوار يتأوّله هذا الوعي الجمعي العتيق كانتهاك لقوانين الطبيعة والشريعة. النساء قاصرات مدى الحياة، وناقصات عقل ودين وquot;أخوات يوسفquot; أي ماكرات وخائنات... كذلك كنَّ في الزمان الأول وكذلك يجب أن يبقيْنَ إلى دهر الدهارير!
لا شيء كالتعليم والإعلام، الذي هو اليوم مدرسة بلا جدران، لإعادة صياغة الوعي الجمعي الإسلامي لتأهيله لاستبطان حقوق المرأة وحقوق الإنسان بتدريس الـ 30 مادة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والاتفاقية الدولية لحماية حقوق القليات، والاتفاقية الدولية لحماية حقوق الطفل في التعليم الإعدادي والثانوي والعالي. لماذا في الإعدادي والثانوي؟ (وبعض المبادئ الأولية، كالمساواة بين الجنسين، منذ الحضانة حيث يتعلّم الطفل اليوم وجوب ارتداء الأم للحجاب والأب للجلباب وتطويل اللحية... فلماذا لا نعلمه بدلا من ذلك انعدام الفرق بينه وبين أخته وأن قضيبه لا يميّزه عليها. quot;رأى الطفل أخته بدون قضيب فاحتقرهاquot; lt;فرويدgt; فلماذا لا نستأصل هذا الاحتقار في المهد أي في الحضانة؟). لتربية جمهور عريض مستنير من أبناء الشعب ndash; وهم صيْدُ المتطرفين الديني الثمين ndash; الذين لا تجتاز منهم إلا قلّة الإعدادي والثانوي إلى العالي.
لماذا تدريس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وملحقاته؟ لأنها خلاصة مركّزة للقيم الإنسانية والعقلانية التي تشهد لقدرة العقل البشري على المعرفة وعلى تذييل العوائق التي تعيق بحثه عنها. تراثنا، كتراث معظم الأمم، لم يعرف لا الفلسفة الإنسانية التي عرفها عصر النهضة ولا فلسفة التنوير التي عرفها عصر التنوير. بعض العناصر العقلانية والإنسانية فيه هُمّشت. آيات الاعتراف بالآخر وآيات التسامح والسّلم، زعم الفقهاء أنها نُسخت جميعا لحساب القتال والجهاد ورفض الآخر والتعصّب والإرهاب... لم يبق لنا، لنعاصر عصرنا، إلا تقليد جميع الأمم التي تبنّت قيم حقوق الإنسان والمرأة والأقليات والطفل بلا تحفظات. حتى الصين تبنت، في مؤتمر ببكين،الشهير، الدفاع عن الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة... لم يعارضها إلا ممثلو الدول العربية... وعندما اقترح الاتحاد الأوروبي على الأمم المتحدة إلغاء عقوبة الإعدام لم تعارضه إلا quot;المجموعة العربيةquot;... كأنما كُتب علينا أن نجاهد في كل ما هو حق إنساني، في كل ما يجعل الإنسانية أقل وحشية! الأمل الأخير هو تدريس أجيالنا الطالعة حقوق الإنسان القائمة على حلقة فاضلة: مصالحة الخصوصيات الثقافية مع كونية القيم الإنسانية لتلبية ما يصْبو إليه الفرد والمرأة في أرض الإسلام: تفهم حقوقهما والاعتراف بها وبهما كما هما وليس كما تريد العائلة والقبيلة والمجتمع المغلق والدولة المستبدة أن يكونا.
تدريس حقوق الإنسان وتعميمها إعلاميا يفترض إدخالها إلى الخطاب الديني (= التعليم، الإعلام، خطبة الجمعة، الفتوى، الوعظ) لوضع حد للتعليم ذي الخطابين المتعارضين: اللّوغوس في درس الفلسفة والميتوس في درس التربية الإسلامية لتكوين أجيال فُصامية تكون مشتلة مثالية للتطرف والتعصّب والإرهاب. فلماذا لا يدرس التلميذ في التربية الإسلامية: quot;ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمةquot;، بدلا من : quot;فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهنquot;، وحديث: quot;النساء شقائق الرجالquot; والآية: quot;المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضquot;، بدلا من quot;الرجال قوامون على النساءquot;... وتدريس آيات وأحاديث الرحمة بدلا من آيات وأحاديث العذاب؟ ومعروف أن حجة الإسلام أبو حامد الغزالي يعترف بأن في القرآن آيات فاضلة وآيات مفضولة... فلماذا لا نكتفي بتدريس الآيات الفاضلة؟ تربية دينية مستنيرة كفيلة بإخراج الإسلام من التدين المغلق الذي سجنته فيه القراءة الحرفية السلفية للنص إلى التدين المفتوح. وهكذا يتعاون الإسلام التنويري مع قيم حقوق الإنسان لإدخال المسلمين إلى الحداثة وإلا بقوا في ضلالهم يعْمَهون.

يا صاحب الجلالة
القرآن نص مفتوح على التأويل والتعديل والنسخ في كل زمان ومكان. نُسخت منه في فترة النبوة (23 عاما) 500 آية على الأقل. quot;كان القرآن ينزل بطلب من الناسquot; (البخاري) ويُنسخ بطلب منهم. كلما تضايق الصحابة من آية تنادوا: quot;لنذهب إلى رسول الله عسى أن يغيّرها لنا كما غيّر آيات قبلهاquot;. مثلا عند سماعهم بآية: quot;حرّض المؤمنين على القتال إنْ يكن منكم عشرون صابرون يغلبون مئتين وإن يكن منكم مائة يغلبون الفاquot; (4، الأنفال)؛ في رواية البخاري عن ابن عباس: quot;فشق ذلك على المسلمينquot; فطالبوا بنسخها فنُسخت في يوم نزولها بالآية التالية لها: quot;الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا إن يكن فيكم مائة صابرون يغلبون مائتين وإن يكن منكم الفا يغلبون الفينquot; (65، الأنفال). تواصل النسخ بعد النبي. فنسخ أبو بكر حق المؤلفة قلوبهم في الزكاة الذي أعطته لهم الآية 60 (التوبة)؛ ونسخ عمر وعلي ومعاذ آية الغنيمة (41 الأنفال)؛ ونسخ الفقهاء آية العقود: quot;وإذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوهquot; (282 البقرة) ونسخ الونشريسي تحريم النبي الزكاة على آل البيت حفظا لكرامتهم: quot;والوقت قاض بجواز إعطاء / آل الرسول من مال الزكاة قسطاquot;، محتجا بأن الزكاة في عصره أحفظ لكرامتهم من التسول. quot;والوقت قاض اليومquot; أيضا بنسخ عشرات الآيات والأحاديث التي تقادمت أحكامها فغدت تشكل عائقا لمصالحة الإسلام مع عصره ومعاصريه. وللضرورات تُباح المحظورات كما تقول القاعدة الفقهية.