تمهيد
كثيرا ما عاينتُ فوضى مذهلة أحيانا في استخدام المفاهيم في غير حقلها المعرفي أو فيه ولكن بنصف معناها أو غير معناها أو عكس معناها. إذا كان كانط قد اشترط أن تكون الكتابة الفلسفية بالمفاهيم، أي بكلمات ومصطلحات وتصورات ومدلولات دقيقة وتغطي معانيها، فإن الكتابة المعاصرة حيث امتدت التخصصات إلى جميع الحقول الثقافية لا تكون الكتابة فيها بالضرورة إلا كتابة بالمفاهيم. وظيفة الكتابة المنتجة للمعنى، أي التي تستخدم المفاهيم في محلها هي دعوة الفكر إلى أن يفكر فيما لم يفكر فيه بعد بتنشيط فضول القارئ المعرفي وتحرير عقله من الأحكام المسبّقة وغيرها من العوائق المعرفية التي تحكم عليه بالعقم والشلل. نقيض هذه الكتابة، وهو المنتشر اليوم، أدّى إلى تضليل الجمهور المتعلم وإصابته بالجهل المركب: جهل من يجهل ويجهل أنه يجهل، وهو أسوأ أنواع الجهل، لأنه يحرم ضحيته من وعي جهله. والحال أن إنسان العصر السحري ndash; الاحيائي بدأ يعلم عندما وعى أنه يجهل.
هذه المعاينة، التي ما فتئت تُكرر على مر السنين، أوحت لي بفكرة كتابة هذا المعجم عسى أن يساعد الكاتب والقارئ معا على امتلاك أداة تحليلية قوية وعابرة للتخصصات لمعالجة وفهْم الموضوعات الثقافية والعلمية المتشعبة التي يستعصي إدراكها في غياب الكتابة والقراءة بالمفاهيم الدقيقة. إذا كانت فكرة تأليف هذا المعجم انطلقت بدافع تصحيح المفاهيم التي استخدمت خطأ في لغتنا، فإني أضفت إليها دافعا آخر لا يقل أهمية هو تقديم المفاهيم الأساسية للمثقفين والجمهور المتعلم والتلامذة والطلبة النابهين لمساعدتهم على فهم مفتوح بعقل مفتوح لمشكلات المعرفة المعاصرة. هذا المسعى سيكون ولا شك ndash; إذ عاونه على ذلك تعليم حقا حديث ndash; محاولة لتدريب الشباب المثقف والمتعلم على التعبير الدقيق عما يقبلونه ويرفضونه في الفكر والحياة. الرفض والقبول الواعيان يشكلان أداة مثالية للتكيف الفعّال مع الواقع بدلا من رفضه العصابي أو الاستسلام السلبي الشائعين كليهما في الثقافة العربية المعاصرة.
رائدي في هذا المعجم هو العقلانية النقدية المفتوحة. العقلانية النقدية المفتوحة لا تدعي أية عصمة للعقل بل تعترف بأنه خطّاء. لكنه الوحيد القادر على تقليص مساحة أخطائه للاقتراب من الحقيقة التي هي دائما جزء من حقيقة أشمل برسم الاكتشاف. والحقيقة العلمية، كما يقول غاستون باشلار، هي خطأ تم تصحيحه وأضيف، فيما يخصني، quot;مؤقتاquot; في انتظار تصحيحات لاحقة دائما ممكنة. مما يجعل ادعاء امتلاك الحقيقة النهائية في الدين والدنيا تعصبا هاذيا.
سيعالج معجم المفاهيم الضرورية زهاء 1500 مفهوم عابرة للتخصصات تنشر بانتظام في إيلاف. ولن أفاجئ القارئ إذا التقى ببعض هذه المفاهيم معرّبة ndash; لا مترجمة ndash; أي مكتوبة بالأحرف العربية مع الاحتفاظ ببنيتها الأجنبية، لماذا؟ لأن ترجمة المصطلحات والمفاهيم أحيانا بعدة كلمات بدلا من تعريبها هو مرض العربية المعاصرة. حتى اللغات السامية، مثل العبرية، لم تعد بمعجمها المصطلحي لغة سامية. فقد استعارت معجمها الاصطلاحي والمفاهيمي من اللغات الأوروبية وهو فيها موحَّد. لكن الذهنية العربية الإسلامية المنغلقة التي صاغتها ذهنية المجمّع القبلي الانطوائي وذهنية إسلام الولاء والبراء الذي لا يقل عنه انطوائية، والذي يحرم تعلم اللغات الأجنبية إلا للضرورة القصوى، ما زالت ترفض إعطاء جنسيتها ndash; تماما مثل كثير من دولها ndash; للدخيل من العلوم ومن الكلمات والمصطلحات المستعصية غالبا على الترجمة ولا يفلح معها إلا التعريب. للتحايل على هذه الذهنية القبلية ndash; الدينية الإقصائية، اخترع الكندي كذبة بيضاء لتحبيب الفلسفة إليها فقال أن يونان هو أخ قحطان. إذن الفلسفة اليونانية هي بنت العم فلا ترتابوا فيها. لكن كذبته لم تجد الفلسفة نفعا فكُفّرت وأحرقت كتبها أحيانا ومازالت مُكَفَّرة في غالبية دول مجلس التعاون الخليجي ومادة اختيارية في مصر. ادخل مترجمو الفلسفة الأوائل وغالبيتهم من المسيحيين المصطلحات والمفاهيم الإغريقية تعريبا لا ترجمة كما فعل بعدهم مترجمو عصر النهضة الأوروبية، لكن الذهنية القبلية ndash; الدينية المغلقة لم تنفتح لها. فلم تتبناها المعاجم القديمة ولا الحديثة. فعربوا ارتميطيقا (= العمليات الأربعة) أما ابن خلدون فكتبها كما في اليونانية quot;ارتميطقيquot; وريطوريقا (=فن الخطابة) التي تترجمها المعاجم المعاصرة مرة ببلاغة ومرة ببيان... وقاطيغورياس (= صفة لموصوف مثل الكمية والكيفية أو المفاهيم). ترجمت اليوم بـquot;المقولاتquot;. وعبثا تبحث عن هذه الكلمة في المعاجم العربية المتداولة. ولن يجد لها التلميذ أو الطالب فضلا عن القارئ الفضولي أي تفسير في مراجعه العربية. والحال أنه لو أُحتفظ بها معرّبة لأستطاع أن يجد ضالته بالعودة إلى أي معجم أوروبي.
في الواقع، العربية، المهددة بالانقراض في هذا القرن مع آلاف اللغات البدائية التي عجزت عن التطور فرفضها قانون الانتخاب الطبيعي، لا ينقصها معجم مفاهيم وبس. بل تنقصها جميع المعاجم الضرورية لبقائها على قيد الحياة. تنقصها أولا المعاجم الأجنبية ndash; العربية التي قد تُخصّبها بالكلمات والمصطلحات والمفاهيم والتعابير لتشفيها من عقمها الحالي إذا صُنعت بطريقة علمية ومن المختصين وليس من الهواة ndash; التجار كما الآن. ثم ينقصها معجم عربي ndash; عربي عام صغير يجد فيه التلميذ والطالب والكاتب والقارئ العادي ضالته. quot;المنجدquot; وأخواته تلتقي فيهم بآلاف الكلمات المهجورة التي لم يعد يستخدمها أحد قولا أو كتابة، وفي المقابل لا تجد فيها آلاف الكلمات المتداولة في العربية المعاصرة، وينقصها معجم عربي ndash; عربي كبير مثل لا روس الكبير أو روبير الكبير، يضم كل اللغة العربية، كلمات ومصطلحات ومفاهيم وتعابير وأمثال سائرة، وينقصها معجم عربي ndash; عربي اشتقاقي يساعد على فهم أفضل لعربية المعاجم المذكورة كما يساعد على نحت المصطلحات، وينقصها معجم المترادفات الذي يسهّل على الكاتب اختيار المرادف المناسب لموضوعه والقارئ على العثور على الكلمة المناسبة لفهم موضوعه، وتنقصها عشرات المعاجم المتخصصة في جميع الفروع العلمية والتكنولوجية. وبعد ذلك ndash; وبعد ذلك فقط ndash; ينقصها معجم، مثل المعجم الفرنسي، 2000 صفحة، من تاريخ اللغة أي تاريخ الكلمات والمصطلحات والمفاهيم الموجودة في المعاجم السابقة. متى دخلت إليها؟ ومن أين وفدت عليها وكيف تطور مفهومها في الاستخدام الشعبي والعالِم على مر العصور؟ هذا العمل المعجمي الضروري لإنقاذ لغتنا من موت داهم لا يمكن أن تنجزه إلا المؤسسات المختصة التي تجنّد لذلك آلاف المختصين. مراجعة معجم لاروس سنة 1977 تطلبت تعاون ألف معجمي، فكيف بصنع معجم عربي مماثل لمعجم لاروس؟ خسر أغنياء الخليج 400 مليار دولار في إفلاس البورصة. أقل من نصف واحد بالمئة من هذا المبلغ كان كافيا لترجمة واصدار المعاجم المذكورة كلها. ولكنها لا تَعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
منذ 30 عاما وأنا أشتغل على إصلاح المعاجم الفرنسية العربية. إصلاح أخطائها المذهلة. فأصلحتُ حوالي 8000 كلمة ومصطلح ومفهوم. وأضفت إليها ما لم تقترب منه. حوالي 3000 كلمة. لكن إصدار هذا المعجم ما زال يتطلب عامين شغلا وتعاون فريق لا يقل عن عشرة أخصائيين لإضافة آلاف الكلمات و12 ألف مصطلح الموجودة في معجم لاروس الصغير وهو لا يحتوي إلا على 20% من المصطلحات العلمية الموجودة في لاروس الكبير ومعاجمه المتخصصة. هل سيرى هذا المعجم النور يوما؟
نداء
الرجاء من القراء التفضل بإرسال ملاحظاتهم النقدية واقتراحاتهم وبدائلهم للمفاهيم التي سأقترحها عليهم في معجم المفاهيم الضرورية عسى أن أستفيد من ملاحظاتهم واقتراحاتهم المشكورة سلفا.