الأب في المخيال الفردي والجمعي هو رمز القوة والسلطان. متى استحق الأب هذه المنزلة السامية؟ ربما منذ ظهور المجتمع البطريقي (= الأبوي). منذ 10 آلاف عام عندما دشن الإنسان الثورة الزراعية الأولى فاستقر في المدن وفي المسكن لينصّب نفسه رئيسا للعائلة؟ قبل ظهور الزراعة والاستقرار كان الأب يذهب في رحلات صيد. وكانت الأم المستقرة في المنزل تشرف على العائلة وتدبر شؤونها. لم يكن أب الأطفال دائما معروفا. فاختيار الشريك الجنسي كان حرا وغير مقيّد بزمان محدد. بانتهاء عصر الصيد وبداية عصر الزراعة اكتسب الأب سلطات واسعة على العائلة الموسعة التي تضم الزوجات والأطفال والوالدين وذوي القربى. برئاسة الأب للعائلة وباستقراره الدائم في المنزل غدا الطفل ينتسب لعشيرة الأب ويحمل اسمه. والأب هو الذي يملي على زوجاته وأطفاله الحلال والحرام فهو رب البيت يحميه ويُعيله. تجلّت وظيفة الأب هذه في الأديان خاصة التوحيدية مثل اليهودية والإسلام. في اليهودية الأب هو رب العائلة. الابن المولود في منزله هو بالضرورة ابنه. والابن الذي يعترف بنسبه هو ابنه. لكن إذا نسبت له امرأة بنوة طفل فلا تلزمه. وهو المُعيل للعائلة. وسلطته عليها شبه مطلقة. لا أحد يقاطعه عندما يتكلم ولا يجلس أحد من اعضاء العائلة في كرسيّيه حتى إذا كان غائبا. خصّه الإسلام أيضا بنفس المكانة؛ تفسيرا للآية 23 من سورة الإسراء quot;وبالوالدين إحساناquot; يروي السيوطي عن عائشة: quot;أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعه شيخ فقال: من هذا معك؟ قال: أبي (فقال له): لا تمش أمامه، ولا تقعد قبله، ولا تدعوه باسمهquot; (السيوطي: الدر المنثور).
كيف يفسر علم النفس هذه المكانة الرفيعة التي يحتلها الأب في اللاشعور الفردي والجمعي؟ الأب السيد الآمر الناهي في المنزل أصبح مثلا أعلى لابنه أي، أسوة حسنة للنسج على منواله. فهو الذي يملي عليه النواهي وفي مقدمتها تحريم نكاح المحارم أي الأم المرصودة حصرا للأب. بين سنّ الثالثة والخامسة يميل الابن ميلا جنسيا لأمه وتميل البنت ميلا جنسيا لأبيها. الابن ينجذب لأمه ليندمج فيها والبنت تنجذب لأبيها لتندمج فيه. وظيفة الأب هي أن يعرف كيف ينهي، نفسيا، علاقة الابن الاندماجية بأمه. كما أن وظيفة الأم هي إنهاء علامة البنت الاندماجية بأبيها. عجز الأب عن القيام بهذه الوظيفة الرمزية هو من منظور التحليل النفسي، quot;نواة العُصابquot; أي، الاختلال النفسي والسلوكي الذي لا يؤثر سلبا على الشخصية النفسية والقوى العقلية ولكنه يسبب آلاما مبرّحة للعصابي مثل المخاوف اللامعقولة، والقلق، والوساوس والهفوات... نشر، سنة 1903، القاضي الألماني Scherber مذكراته بعنوان quot;مذكرات عُصابيquot; كاشفا عن هذيانه أي رغبته في أن يحوله الله إلى امرأة قادرة على إنجاب عالم جديد...، استنتج فرويد من قراءتها تحليليا، سنة 1911، أن والد القاضي الألماني عجز عن الفصل الرمزي بينه وبين أمه فتقمّص دورها في الإنجاب الذي عبر عنه في هذيانه البارانوئي بإنجاب عالم جديد. بعض النفسانيين الأمريكيين يفسرون انتشار الجريمة في الولايات المتحدة باستقالة الأب أي غيابه عن المنزل، في العمل ثم في الحانات، فلم يستطع أن يربّي في أبنائه الضمير الأخلاقي أي ذلك الوازع الداخلي الذي يردعهم عن انتهاك القانون: أوامر الدولة ونواهيها التي هي المعادل النفسي لأوامر الأب ونواهيه وأوامر الله ونواهيه.
الأب الذي يمنع اندماج الابن في الأم لا يحرّم عليه النكاح مطلقا بتحويله إلى مصدر للشعور بالذنب والخطيئة، كما هو الحال عند بعض النّحل الدينية الذهانية، بل يُحرّم عليه نكاح الأم فقط، لكنّ يفتح له الطريق للإشباع الجنسي مع من أحب غيرها. الفصل بين الابن والأم ضروري لتسهيل اندماج الابن في الوسط الاجتماعي والثقافي أو الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة. يؤكد النفساني جيرار ماندل أن جميع الأبناء الذين نكحوا أمهاتهم جُنّوا. الأب ليس الأب الوالد، الأب البايلوجي فقط، فهذا أقل الآباء أهمية، بل هو الأب المربي، الأب الخيالي والأب الرمزي. فرويد عند تحليله للطفل Hans لعب دور الأب الخيالي، الذي عوَّض الأب الوالد العاجز عن القيام بوظيفة الفصل بين الابن والأم، فأملى على هانس تحريم الأم التي تعلّق بها منقذا له من السقوط في الهذيان البارانوئي الذي سقط فيه القاضي شربير. أما الأب الرمزي فهو الأب الميت، الأب الشهيد الذي يملي على أبنائه من وراء قبره قوانينه وشرائعه ويورثهم شعورا دائما بالذنب والخطيئة. تخلّي العراقيين عن الحسين الذي استقدموه وسقوطه شهيدا، في مشهد مروِّع، أورث الشيعة حدادا دائما وشعورا ساحقا بالخطيئة ينفَجِر دموعا ودماء في كل عاشوراء منذ 14 قرنا. في التحليل النفسي الأب الرمزي هو الأب القتيل الذي قتله أبناؤه قتلا ليس بالضرورة فعليا بل رمزيا، أي شعورهم بالتقصير في حقه وخذلانه أو عدم التقيّد بأوامره ونواهيه. حاول السنة تحويل النبي إلى شهيد بأسطورة تسميم امرأة يهودية له فمات بعد عام من تناول اللحم المسموم. يرجح المؤرخ المصري حسين مؤنس أنه مات بالملاريا. لكن الأسطورة لم تفعل مفعولها لتخلي المؤرخين السنة عنها ففقدت مصداقية لا غنى عنها لتحويل محمد إلى أب شهيد. يفترض المحلل النفسي الفرنسي دانيال سيبوني أن افتقاد العرب في تاريخهم الديني إلى أب شهيد، على غرار موسى ويسوع، حولهم إلى مجتمع أخوة يتامى لا ضابط لغيرتهم الجنونية من بعضهم التي تتجلّى في نزاعاتهم وفتنهم الدائمة داخل بلدانهم وبينها وبحثهم المسعور عن أب اجتماعي، اب للجميع، يجترح لهم المعجزات ليشفيهم من جروحهم النرجسية المتعفنة quot;حتى أنك لو وضعت 10 عرب في غرفة فإنهم سيخرجون منها بـ10 أفكار متناقضةquot;. هل يمكن لنا أن نأمل في تحويل عقدة اليتم من عائق لدخول الحداثة إلى حافز للإقبال عليها؟ هل يستطيع اليتيم أن يصبح أب نفسه فينتفض على جموده الذهني ويتحرر من عبادة أسلافه والتسلي بأوهام ماضيه؟ لماذا لا؟ إذا طبق في تعليمه واعلامه وسياسته الداخلية والخارجية ما اسماه الطبيب النفساني B. Cyralnik quot;القفزةquot; Reacute;sillience أي القدرة على التصدي للصدمات واستئناف التطور النفسي الطبيعي رغم الظروف المعادية التي تحّولها إرادة الحياة من عقبة إلى مِرقاة.
كيف يُسقط الأب الرمزي على أب سماوي؟
الأب الرمزي، الأب القتيل، الأب الشهيد هو الذي يرفعه أبناؤه الذين خطأوا في حقه إلى منزلة الشهداء والأولياء والأبطال والآلهة... حتى ليمكن القول بأن آلاف بل عشرات آلاف الآلهة التي عبدها الإنسان منذ أقدم العصور هم في الواقع رموز أبوية اسقط عليهم المؤمنون بهم صفات أبائهم الرمزيين: الحماية وإملاء القوانين والشرائع وعقابهم، في الحياة أو بعد الممات، إذا انتهكوها. يقول النفساني الفرنسي P. Daco : quot;بالامكان اسقاط: فكرة الأب أو الرئيس في المطلق والاعتقاد بوجود اله منتقم، ومعاقب وغضوب وأيضا غفور رحيم... وباختصار تُنسب اليه خصال ونواقص ليست في الواقع الا إسقاطا لمشاعر بشرية. لو حاولت سمكة اختراع اله ndash; سمكة لرأته على الأرجح في صورة سمكة هائلةquot; (بيار داكو: انتصارات التحليل النفسي، ص 171) ويضيف مُحللا ميكانزم إسقاط الأب الفاني على أب رمزي لا يحول ولا يزول: quot;قد تكون فكرة الله أكثر الأفكار قدما في تاريخ البشر. انغرست في اللاشعور انطلاقا من انفعالات عنيفة دائرة حول قوة غيبية، سلطان خلاق ومدمر، طاقة أبدية... رمز الله مرتبط ارتباطا حميميا برمز الأب الذي تبلورت حوله الانفعالات الخفية التي تنتابُنا منذ الطفولة أمام فكرة كائن قوي، بطولي، مجيد؛ يهدي خطانا، ينير طريقنا، فكرة كائن نحن أبناؤه المستحقون للعقاب والثواب، للغفران، للرضى والحب (...) (الله) هو رمز الأب البصير بكل شيء والعليم بكل شيء والذي يعاقب الابن المنتهك لقانونهquot; (ن. م. ص 282).
واضح اليوم أن قيم المجتمع البطريقي الاجتماعية والأخلاقية تنحسر تدريجيا فهل يعني ذلك أن الأب لن يُصبح قادرا على أداء وظيفته: فصل الابن عن الأم وتاليا ظهور مجتمع من المختلين ذهنيا؟ في المجتمع المعاصر، مجتمع القيم والأخلاق ما بعد البطريقية، الأب والأم، التي تأهلت أخيرا نفسيا وعلميا واقتصاديا لتغدو مساوية له، يتبادلان الأدوار في الأسرة ويتشاركان في الوظيفة الرمزية: فصل الاب للابن عن الأم وفصل الأم للبنت عن الأب. مِن تفاوض الأب والأم، في مناخ ودي، على اقتسام وظيفتهما الرمزية، يتدرب الأبناء على التفاوض بدلا من النزاع وعلى قيم الضيافة والمشاركة بدلا من الاستئثار الأناني وقيمه الانتحارية: quot;إذا متُّ ظمآنا فلأنزل القطرquot;. هذه القيم التي توشك أن تقود البشرية الى عالم تستحيل فيه الحياة. وظيفة الأب الرمزية مازالت حية لكنها، في البلدان المتحضرة، تطورت لتسمح بظهور دور الأم التي خرجت من قصورها الأبدي الذي سجنتها فيه الأخلاق البطريقية الدينية الآفلة. في السيناريو المتفائل، قد تشهد البشرية مجتمعات ما بعد بطريقية يتعاون فيها الأب والأم والأطفال أيضا على إدارة العائلة التي لا تعود مشتقة من عالَ يعول أي جار وبغى. آمين.