معجم المفاهيم الضرورية (3)
توضح مفهوم الابيستِمولوجيا الذي هو مفهوم أساسي لبلوغ المعرفة الموضوعية سواء في حقل العلوم أو في حقل المعارف العامة يتطلّب ثلاثة أمور أساسية ضرورية: تعريف الابيستِمولوجيا، تحديد موضوعها وتحديد كيفية تحقيقها لموضوعها.
التعريف: الابيستمولوجيا مركبة من لفظين: EPISTEME quot;علمquot; و LOGOS quot;خطابquot;؛ إذن خطاب في العلم. للابيستمولوجيا تعريفان: الماني - انجليزي وهو يعني quot;نظرية المعرفةquot; في جميع الحقول المعرفية. أما تعريفها الفرنسي، تحت تأثير فلسفة غاستون باشلار، فيعني حصرا quot;فلسفة تاريخ العلومquot;. فهي إذن، بالتعريف الفرنسي، خطاب فلسفي على الخطاب العلمي وفرع من فلسفة العلوم التي تدرس على نحو نقدي الطريقة العلمية في البحث على المعرفة العلمية. أو بعبارة أوضح: تُعالج الشروط التي تسمح بالوصول إلى المعرفة العلمية أو التي تدعي انها علمية بتحديد أصلها المنطقي وقيمتها واهميتها الموضوعية ونتائجها النظرية والعملية. أما الابيستمولوجيا بما هي نظرية المعرفة؛ بالتعريف الألماني ndash; البريطاني، فهي تدرس المسائل الجوهرية في كل مسْعى معرفي. مثلا، ما هي مصادر المعرفة؟ ما هي حدودها؟ لماذا يتوجب على الباحث التسليم بحكم ما، أو قضية ما؟ هل مصدر المعرفة اليقينية هو العقل، كما عند ديكارت، أم التجربة الحسية كما عند هيوم؟ هل المعرفة العلمية استمرار للمعرفة العامية أم قطيعة معها؟ هل المعرفة الذاتية التي مصدرها الحدْس والذوق السليم، والتي لم تمر لا بامتحان التجربة ولا بالفرضيات المنطقية الرياضية طريق للمعرفة الموضوعية؟ هل طريق المعرفة يمر من الوقائع إلى النظرية العلمية أم، بالعكس، من النظرية العلمية إلى الوقائع؟ هل يمكن توحيد جميع العلوم سواء عبر لغة مشتركة، هي لغة الفيزياء، أو عبْر ميتودولوجيا Methodologie (= دراسة طريقة البحث على الحقيقة في العلوم)؟ أم أن ذلك لا سبيل اليه لعدم وجود طريقة موحّدة للعلم. لم يعد بامكان العلم أن يكون موحدا وعليه أن يكون نسبيا. بسقوط المطْـلقات الرياضية والفيزيائية، التي غدت منذ ظهور نسبية انشتاين في أوائل القرن الـ20، خاضعة للتعديل وللبناء واعادة البناء، سقط المطلق حتى خارج المعرفة، في الدين مثلا. وسواس المطلق عَرَض لمرض هو الافلات من ضوابط التفكير المنطقي التي يستقيل العقل في غيابها تاركا مكانه للرغبة والانفعال والعواطف والهذيان.
ما هو موضوع الابستمولوجيا؟ هو نمو المعرفة عبر تاريخ العلوم والمعارف. وكيف تنمو؟ هل بالاستمرارية أي مراكمة المعارف؟ أم بالقطيعة المعرفية، أي بطرح المعارف غير العلمية، التي هي في الواقع بديهيات زائفة وعوائق معرفية أعاقت نمو المعرفة إلى أن يتم التعرف عليها لازاحتها من طريق العلم؟
الاستمرارية ترى أن المعارف العامية، الحدسية، التي يسميها أنصار القطيعة الابستمولوجية عوائق، هي التي تساهم في تنمية المعرفة العلمية. يعطي أوغست كونت مثالا مكتملا على الاستمرارية في تاريخ البشرية بالأطوار الثلاثة التي أسّس عليها فلسفته الوضعية. في الطور اللاهوتي تُفسّر الظواهر بالأسطورة والدين أي بتدخل فاعلين فوق طبيعيين، ليستمر هذا الطور، لكن على نحو أرقى، في الطور الميتافيزيقي حيث يتم تعويض الآلهة بكيانات وأفكار ميتافيزيقية لتفسير الظواهر. يتطور هذا الطور إلى الطور الأخير، الوضعي، حيث يشرع العقل البشري في استخدام الملاحظة والبرهان العلميين لتفسير الظواهر.
القطيعة الابستمولوجية، ورائدها غاستون باشلار، ترى أن نمو المعرفة العلمية يتحقق ليس بالاستمرارية بل بثورة مستمرة ترسل في كل مرة المعرفة العامية، بما هي عوائق تعيق نمو المعرفة العلمية، إلى ارشيفات التاريخ: quot;يجب إذن، يقول باشلار، قبول قطيعة حقيقية بين المعرفة المحسوسة (= العامية) والمعرفة العلميةquot; (تشكل الروح العلمي ص 239). فما هي العوائق المعرفية؟ يقدم لها باشلار قائمة نسبيا طويلة خلاصتها أنها الرأي الذي لم يُثبت شرعيته العلمية أمام محكمة البرهان العلمي، أي الأحكام المسبّقة والمعارف الذاتية والمعتقدات الدينية والأسطورية مثل أسطورة النار التي أعاقت تقدم الكيمياء لمدة نصف قرن..
كانط هو في وقت واحد من انصار القطيعة والاستمرارية. يعطي لذلك مثلا بالثورة الكوبرنيكية: الانتقال من علم إلى آخر، من الفيزياء الفلكية البْطولِمية (= نسبة إلى بطلموس) التأملية إلى الفيزياء الفلكية الكوبرنيكية الرياضية، يتحقق بثورة علمية، أي بقطيعة ابستمولوجية لها قبل وبعد. أما بعد ذلك فيستمر التراكم المعرفي دونما انقطاع.
من حق القارئ أن يسأل: وماذا عن حال الابستمولوجيا عندنا؟ كحال الأيتام على مأدبة اللئام. الآيات والأحاديث quot;العلميةquot; ما زالت تشكل عائقا مخيفا لانفتاح الوعي الجمعي على العلوم المعاصرة. الكوسمولوجيا (= تكوّن الكون) الفلكية مرفوضة لأنها لا تتفق مع الكوسمولوجيا القرآنية: خلق الله السماء والأرض في 6 أيام. البايلوجيا التطورية مرفوضة لأنها أثبتت أن الحياة تكونت في المحيط البدائي منذ زهاء 4 مليار سنة انطلاقا من باكتيريا وحيدة الخلية تناسل منها النبات والحيوان والإنسان... وأمنا حواء لم تلدنا بل وُلدت معنا من الباكتريا إياها... بدلا من إزاحة هذا العائق الديني أمام دخول العلوم، شاءت البترودولارات الخليجية وخاصة السعودية أن ترسخه بالتعاطي السنوي لأفيون مؤتمر quot;الاعجاز العلمي في القرآنquot; كحيلة نفسية للحيلولة بيننا وبين الاعجاز العلمي الحق في مراصد ومخابر علماء العالم التي اكتشفت، بعد أن تخلصت منذ زمن طويل من العائق الديني، المتناهي في الكبر (= الأفلاك) والمتناهي في الصغر (= الذرة وما تحت الذرة) والمتناهي في التشعّب (= الكومبيوتر)؛ وهكذا لم تترك لنا عوائقنا الدينية وجبننا الفكري والسياسي إلا دوْرَ المتفرج السلبي على مسيرة قاطرة التقدم العلمي والنقاشات الخصبة التي تثيرها في الغرب والعالم بما فيه البوذي والهندوسي حيث الفصل تام بين الدين والعلم.
من المتوقع، في مثل وضعنا العلمي المأساوي، عندما نستعير فتاتا من فلسفة العلوم أن نحوّلها إلى كاريكاتور فتصير عقيما بسوء فهمها وسوء تطبيقها على سياق لاهوتي متعارض كليا مع سياقها العلمي الأصلي. وهكذا استخدم الجابري القطيعة الابستمولوجية في كتابه quot;العقل العربيquot;، الذي هو، ابتداء من عنوانه، مقبرة هائلة للمفاهيم التي مسخها الاستخدام العشوائي. مثلا اعتبر quot;علم أصول الفقهquot; وquot;علم الشريعةquot; عِلمين تًطبّق عليهما المفاهيم الابستمولوجية المستعارة من الكيمياء والفيزياء. والحال أنهما ليسا حتى معرفة عامية بل مجرد معتقدات دينية لا وجود لنمو علمي أو معرفي أو حتى ديني فيها. ولو كان بالامكان تطبيق المفاهيم الابيستمولوجية على اللاهوت لاستخدمها اللاهوت المسيحي، الأقرب إليها ثقافيا من quot;علم الشريعة الإسلاميةquot;. كان بامكان الجابري أن يستفيد من دراسات المستشرقين للفقه الإسلامي مثل الألمانيين غولدزيهير وشاخت، وأن يستعير المفاهيم السوسيولوجية التي درس بها الغربيون تاريخ لاهوتهم لمحاولة تطبيقها على دراسة quot;المصلحةquot; دراسة مقارنة عند الشاطبي وعند الفقهاء الآخرين منذ الخلفاء الراشدين الذين نسخوا آيات قرانية للمصلحة مثل آية الفيء التي نسخها عمر ومعاذ وعلي، من أجل مصلحة الأجيال القادمة، وآية العقد التي نسخها الفقهاء من أجل مصلحة التجار، وحديث منع آل البيت من الزكاة الذي نسخه الفقيه المغربي الونشيريسي من اجل مصلحة فقراء آل البيت ومفهوم quot;المصلحة العقليةquot; عند الفقيه الحنبلي نجم الدين الطوفي الذي سبق الشاطبي بقرن، والذي اعتبر المصلحة ناسخة للنص quot;من كتاب أو سنةquot; وهو ما لم يجرأ عليه الشاطبي الذي استبطن كمعظم الفقهاء تحريم نسخ النص الذي بدأ يعود اليه اليوم فقهاء مثل الترابي ومحمد الطالبي وجمال البنا وكاتب هذه السطور. بدلا من هذا المسعى المنطقي انقاد الجابري لقناعاته القومية العربية فجعل الفقيه محمد ابن سحق الشاطبي يسبق فيلسوف العلوم، غاستون باشلار، الى اكتشاف العوائق الابيستمولوجية! فوقع في ما اسماه ارسطو في كتابه quot;قاطيقورياسquot;: quot;خطأ التصنيفquot;، أي نقل المفاهيم إلى غير حقلها المعرفي. وهذا ما عدّه الفيلسوف والفيزيائي الفلكي البريطاني M. Ryle عائقا للتقدم الفلسفي الذي يفترض أن الفهم الدقيق للمفاهيم يقي من سوء استخدامها في ما لا تصلح له. مقارنة فقيهٍ كالشاطبي بفيلسوف علوم كباشلار بل وبكل quot;فلاسفة العلم المعاصرينquot; لا تعني الا شيئا واحدا جهل من قام بالمقارنة بمنطِقَي quot;علم الشريعةquot; وفلسفة العلوم معا . كتب الجابري بصدد quot;قطيعةquot; الشاطبي الابيستمولوجية المزعومة عندما اعتبر أن quot;مقاصد الشريعةquot; معيارا، مع القرآن والسنة، للأحكام الشرعية وبناء أصول الفقه: quot;على مقاصد الشرع (...) وبذلك يكون الشاطبي قد دشّن قطيعة ابيستمولوجية حقيقية مع طريقة الشافعي وكل الذين جاؤا بعده من الأصوليين ولم يتردد في التصريح بأنه بصدد تأصيل علم الشريعة، والهدف هو بناء هذا العلم (!) بالصورة التي تجعل منه علما برهانيا (!)، علما مبْنيّا على quot;القطعquot; وليس على مجرد الظنquot; (بنية العقل العربي ص 540). مفهوم quot;علمquot; يقوم على quot;القطعquot;، على الحقيقة المطلقة واليقين الأعمى والحال أن العلوم قائمة على النظريات المفتوحة على التقدّم العلمي أي على التجاوز والتعديل والالغاء، هو مفهوم مضاد للعلم، هو تناقض في الحدود، هو ذبح للمفاهيم. كل ذلك لم يَعِه الجابري الذي استبد به الحماس فخاطب قارئه الذي اسقط عليه حالته النفسية: quot; إذا كان القارئ ممن له المام بما يُروّج (!) في الابيستمولوجيا المعاصرة (...) وكانت هذه المرة الأولى التي يتعرف فيها على الشاطبي، فلا شك أنه سيهتز دهشة وتعجبا، لأنه سيقرأ في خطاب الشاطبي نفس المعاني التي يقرأها في خطاب فلاسفة العلم المعاصرين (ن. م. 539). الشاطبي التاريخي لا علاقة له بالشاطبي الأب الرمزي الذي جعله الابن المحبط قوميا، على كل شيء، قدير. (انظر: الأب هل هو رمز الله). كثيرا ما يكتب الجابري عن شخصيات التراث الإسلامي بالاسقاط أي بالتحويل الخيّر أو بالتحويل الشرير. quot;يهتز تعجباquot; للأب الشاطبي وابن حزم وابن رشد وترتعد فرائصه تقززا من الأب quot;الرذيلquot;، ابن سينا، فيلفق له quot;جريمةquot; العرفان بتزوير أقواله لإثبات التهمة (انظر جورج طرابيشي، مذبحة التراث).
يبدو لي أن القومية العربية، التي لم تكن عند الجابري مشروعا سياسيا يتعامل معه بمعقولية نسبية، بقدر ما كانت قناعة عارمة أُستثمرَت استثمارا نفسيا مكثفا وفكرة ثابتة اجتاحت كيانه كله، قد أملت على الجابري بديهيات quot;العقل العربيquot; الزائفة ومعتقداته الايديولوجية والعاطفية وخصوصياته العربية الإسلامية التي هي خصوصيات الاثنية المركزية عند القبائل البدائية التي تتصور كل منها أنها quot;استثناءquot; من القبائل الأخرى لا ينطبق عليها ما ينطبق على باقي القبائل التافهة. ألا يكون العقل العربي من هذا المنظور ترجمة quot;فلسفيةquot; لـquot;الاشتراكية العربيةquot; وquot;الاستقلال التاريخي للذات العربيةquot; ترجمة للقومية العربية وأمتها الموحدة وغيرها من الخصوصيات الموجودة في عالم الأذهان أكثر مما هي موجودة في عالم الأعيان؟