دخل الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة أسبوعه الرابع ضمن وتيرة توحي أنه سوف يستمر لما يزيد على شهر، محدثا خسائر في الجانب الفلسطيني لا أعتقد أن أحدا كان يتوقعها بين الفلسطينيين والعرب، قياسا على اجتياحات و هجومات سابقة، فعدد القتلى من الفلسطينيين يزيد عن ألف قتيل، والجرحى عددهم على أبواب الخمسة ألاف، أما التدمير في المنازل والمباني والبنية التحتية فيكاد يصل لتدمير شامل لنصف ما في القطاع، وتقدر هذه الخسائر بمليارات الدولارات حسب التقديرات الفلسطينية والإسرائيلية. هذا على المستوى المادي المحسوس والمعاش تحديدا من فلسطينيي قطاع غزة ( من يده بالنار ليس مثل من يده بالماء ). أما النتائج المتوقعة لهذا الاجتياح في الميدان السياسي، وهو المتوقع حسب مصادر إسرائيلية توقفه يوم العشرين من هذا الشهر، أي يوم تسلم باراك أوباما مهامه الرئاسية في البيت الأبيض، فهي نتائج تخضع للتحليل والمعطيات السياسية التي سادت ورافقت هذا الاجتياح، وبناء على ذلك فهذه النتائج حسب رؤيتي للحدث وأبعاده العربية والدولية فهي كالتالي:
أولا: الترويج والقناعة بانتصار إلهي لحماس
وهذا قياسا على ما سبق أن تم الترويج له من انتصار إلهي لحزب الله في حرب تموز 2006 بينه وبين دولة إسرائيل، رغم كل الخسائر والتدمير في البنية التحتية اللبنانية الذي تم تقديره بما يزيد على 12 مليارا من الدولارات، والتطبيق الكامل لقرار الأمم المتحدة رقم 1701، ووصول قوات اليونيفيل المسلحة وسيطرتها على الشريط الحدودي بين لبنان وإسرائيل، وبسط سيطرة الجيش والدولة اللبنانية على كافة الأراضي اللبنانية، مما أوجد على الأرض هدوءا كاملا لم يتمكن من خلاله حزب الله إطلاق أية رصاصة طوال العامين الماضيين على إسرائيل بما فيها أسابيع الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة، إذ لم يجرؤ حزب النصر الإلهي من الانتصار لشقيقته حركة حماس بطلقة أو صاروخ واحد عبر الحدود مع إسرائيل، إلى حد أن حزب الله نفى رسميا وصراحة أن لا علاقة له مطلقا بالصواريخ الثلاثة التي أطلقت على إسرائيل من الحدود اللبنانية. وضمن هذه المقاييس العربية فسوف يتم إصدار شهادة رسمية بالنصر الإلهي الثاني لحركة حماس رغم سقوط أكثر من ألف قتيل وخمسة ألاف جري وتدمير شبه كامل للبنية التحتية في القطاع. وهذه المقاييس العربية للنصر والهزيمة معتمدة منذ عام 1967، إذ أعلن حزب البعث السوري رسميا، أنه في حرب حزيران ذلك العام ورغم احتلال كامل هضبة الجولان السورية إلا أن حزب البعث اعتبر أن القطر السوري قد خرج منتصرا من تلك الحرب. كيف ذلك؟. لأنه حسب أدبيات الحزب فإن هدف الحرب كان إسقاط النظام البعثي الثوري في سورية، وكون هذا الحزب ونظامه لم يسقطا فقد خرجا منتصرين ببقائهما جاثمين على قلب الشعب السوري بالقمع ومصادرة كافة الحريات. وبالتالي فرغم كل الخسائر الفلسطينية أمام خسائر تكاد لا تذكر للجانب الإسرائيلي، وكون حركة حماس ما زالت تسيطر وتحكم القطاع منفردة دون أي تنظيم فلسطيني آخر، فهي قد خرجت منتصرة رغم أنف الاحتلال وعملائه الفتحاويين تحديدا. ومن المهم التذكير أنه في بداية ألاسبوع الثاني للاجتياح ورغم سقوط ما لا يقل عن 300 قتيل فلسطيني، إلا أن خالد مشعل خرج بتصريح يطمئن الشعب الفلسطيني بأن قيادة حماس ما زالت بخير ولم يقتل منها أي قيادي.
ثانيا: ازدياد الخلاف بين حماس الداخل والخارج
كان وما يزال واضحا أثناء الاجتياح الإسرائيلي وقبله وجود تباينات واسعة في الرؤية السياسية بين حماس الخارج التي نجمها الأول والوحيد خالد مشعل، وحماس الداخل التي قائدها الشرعي المنتخب إسماعيل هنية. والدليل على عدم وجود رؤية وسياسة حمساوية واحدة هو أنه في كافة الحوارات الفلسطينية سابقا واتصالات وقف الاجتياح الإسرائيلي الحالي، نسمع ونرى ونعيش يوميا موضوع موافقة قيادة الداخل لكنها في انتظار موافقة قيادة الخارج، وفي كافة المباحثات يوجد وفدان لحماس: وفد الداخل ووفد الخارج. ومن الواضح أن حماس الخارج تأخذ أوامرها من القيادتين السورية والإيرانية، وقد عبّر عن ذلك خالد مشعل نفسه، عندما صرّح قبل أيام أن القيادة السورية ( نصحتنا ) برفض المبادرة المصرية. لاحظوا نه استعمل فعل (نصحتنا) وليس (أمرتنا). وحسب مواقف القيادتين فإن قيادة حماس الداخل أكثر عقلانية وهدوءا من قيادة الخارج التي لا تعيش هموم الشعب الفلسطيني ميدانيا. لذلك فالمتوقع بعد وقف إطلاق النار بأية صيغ ونتائج، سيقوي ذلك قيادة حماس في الداخل مما يمكنها من أخذ قراراتها باستقلالية عن قيادة الخارج.
ثالثا: ترسيخ الانفصال بين إمارة حماس ودويلة عباس
كان الجميع فلسطينيون وعربا ومراقبون أجانب، يتوقعون أن هذا الاجتياح الإسرائيلي سينتج عنه بشكل فوري نبذ الخلافات الفلسطينية خاصة بين حكام قطاع غزة من حماس وحكام الضفة الغربية من فتح، إلا أن النتيجة كانت مخيبة للآمال، لأن الحملات العنيفة بين الطرفين استمرت بشراسة وقصف أشد، خاصة من طرف حماس التي كان وما يزال قادتها وإعلامها و فضائيتها يصرون على أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس وحكومته وسلطته كانوا على علم بالاجتياح الإسرائيلي، وأعطوا موافقتهم ومباركتهم له مع رجاء أن لا يتوقف الاجتياح قبل إسقاط حكم حماس وتدمير بنيتها التحتية العسكرية بما لا يسمح لها الاستمرار في حكم القطاع وإطلاق الصواريخ على إسرائيل. وترد حركة فتح وسلطتها بنفي ذلك متهمة حماس بالتهور وجلب المصائب على الشعب الفلسطيني من أجل أن تبقى فقط مسيطرة على القطاع متنكرة للشرعية الفلسطينية. هذا الوضع المزري الذي لا يحترم مشاعر الشعب الفلسطيني خاصة ذوي الضحايا شهداء أم قتلى، ولم يتوقف أثناء الاجتياح بل تصاعد أكثر، لن ينتج عنه بعد توقف الاجتياح أي تقارب بين الفريقين خاصة بعد فشل اتفاق مكة وعشرات الاتفاقيات مع الجانب المصري تحديدا، وهذا يعني أن إمارة حماس في القطاع ودويلة عباس في الضفة، سيبقى وضعا فلسطينيا لسنوات طويلة. وهذا الوضع يقدم أفضل خدمة للاحتلال الإسرائيلي الذي ليس من مصلحته إسقاط حكم حماس في القطاع أو تقوية دويلة عباس في الضفة. وبناء على ما ارتكبته حماس من جرائم قتل وتصفيات بعد نجاح انقلابها العسكري في حزيران 2007، علينا أن نشكر الله والظروف التي لم توجد حدودا مشتركة بين القطاع والضفة، و إلا لاستمرت حرب العصابات بين الطرفين بهدف كل طرف أن يحرر الأرض من الطرف الآخر العميل، وبالتالي وحسب الاتهامات المتبادلة فالطرفان عميلان.
رابعا: استمرار الخلافات العربية الرسمية
كان من المتوقع في أوساط الشارع العربي أن يكون الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة عامل توحيد للمواقف العربية الرسمية، مما يجعلها في معسكر واحد بدلا مما ساد سابقا حول (معسكر الاعتدال) و معسكر (الممانعة)، إلا أن بعض الأنظمة خاصة النظام السوري استغل هذا الاجتياح لتأجيج الخلافات الرسمية العربية، من خلال تسيير مظاهرات تجاه السفارة المصرية والهتافات ضد النظام المصري والرئيس مبارك تحديدا، بالإضافة لحملة واسعة في الإعلام السوري عما أطلقوا عليه تواطؤ النظام المصري ومباركته للاجتياح. واتضحت رقعة الخلاف والانشقاق في الصف العربي الرسمي من خلال المواقف من الدعوة القطرية لعقد قمة عربية يوم الجمعة السادس عشر من يناير الحالي، وحتى كتابة هذه السطور رفضت مصر وتونس والسعودية علنا حضور القمة،بينما عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية ينتظر موافقة 15 دولة عربية لانعقاد القمة عندئذ بمن يحضر. هذا مع التأكيد على أن القمة لو عقدت بحضور كافة الدول العربية أو بحضور 15 دولة فقط، فلن ينتج عنها سوى بيانات تأييد وإدانة تعيش عليها الفضائيات العربية لعدة ساعات، أما في التطبيق فلا مساعدة ولا دعم ولا أمل للشعب الفلسطيني من هكذا قمم كما تعودنا عليها منذ أول قمة عام 1964.
تلك هي قراءة سياسية اعتمادا على ما تشهده الساحات الفلسطينية والعربية، وكنت سأقول: أتمنى لو أن واحدة من هذه القراءات أو كلها لا تتحقق، لكن الواقع غير الأمنية:
ليس كل ما يتمناه المرء يدركهتجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وهكذا دوما (رياح الأنظمة العربية) تجري بما (لا تشتهي سفن شعوبها). فهل هناك فرقة وخصومات أكثر مما بين الأنظمة والشعوب العربية؟.
[email protected]