مع دخول الرئيس الامريكي الجديد باراك اوباما الى البيت الابيض في الساعات القيلة القادمة يتساءل رهط من المراقبين والمهمومين بالشان الامريكي قائلين: اذا كانت ادارة الرئيس بوش هي زمن استعلان سر الاثم Mysterium Iniqutatis عبر ثمان سنوات من الحروب واخبار الحروب وتعميق العداوات وتاصيل الكراهات، فهل ستضحى رئاسة اوباما بمثابة تجلي سر القيامة Mysterium Resurrectionis اي قيامة امريكا من كبوتها الاخلاقية وتحطم الحلم الجميل على صخرة الحروب الاستباقية والمنطلقات الدوجمائية حيث خلط الدين بالسياسة كان ولا يزال وبالا على من يتعاطاه؟
الجواب يتحتم علينا ان نتوقف على معرفة هل للمحافظين الجدد مكان في البيت الابيض واركان ادارة اوباما الجديدة ام لا؟
في اول مقابلة تلفزيونية له بعد انتخابه رسميا كرئيس للولايات المتحدة الامريكية اكد الرئيس الامريكي باراك اوباما على صدق نواياه وحسن طواياه لجهة استعادة مكانة امريكا الاخلاقية حول العالم، غير ان التصريحات اللاحقة له عبر شبكة CBS الاخبارية الامريكية لم تكن في حقيقة الامر قادرة على بث الطمانية في نفوس الكثيرين.
لعل اول مشهد لا يحمل كثيرا على الاطمئنان لجهة نوايا الرئيس اوباما والتي يخشى المراقبون معها ان يكون الرجل محملا بمركبات نفسية غير سوية تدفعه في الاتجاه الخاطئ تماما كان ذلك المتعلق بالحديث عن الارهاب والشر وحشر الاسلام والاسلاميين في ملامح الاشكالية التي يبدو انها ستستمر لزمان وزمانين.
فمع احداث مدينة بومباي كان اوباما يحذر من تمركز من اسماهم الاسلاميين المتطرفين في جنوب اسيا معتبرا ان هؤلاء يشكلون اكبر خطر على الولايات المتحدة الامريكية ليس هذا فحسب بل ان الرجل كذلك جدد التزامه بمواصلة الحرب العالمية ضد ما اسماه الارهاب... هل اختلف المشهد كثيرا عن منهجية بوش في التفكير؟
وفيما يؤشر لزيادة المواجهة الامريكية المسلحة في اسيا فان اوباما كان يشير الى تدهور الاوضاع في افغانستان والوضع في جنوب اسيا عموما في ظل ما اسماه بquot; المخابئ الامنة للارهابين التي اقيمت هناك لتمثل quot;اهم خطر على الشعب الامريكي quot; هل يفهم من تلك الرؤية ان الحرب التي دشنها جورج بوش على العالم تحت ذريعة الارهاب ستمضي قدما في عهد اوباما متخذة ذات العلة؟
ربما يكون ذلك كذلك بالفعل وبخاصة في ضوء التصريحات التي صدرت عن اوباما نفسه عشية اختياره لفريقه الجديد وفيها تعهد quot; بان يظل الجيش الامريكي هو الجيش الاقوى على وجه الارض quot; الامر الذي كان له انعكاسات واضحة حول العالم...... ماذا عن ذلك؟
في افتتاحيتها صبيحة اعلان التعيينات الجديدة كتبت صحيفة الفاينانشيال تايمز واصفة فريق اوباما بانه quot;مقامرةquot; وفيه quot; اختار اوباما فريقا من الوسط ان لم يكن من يمين الوسط وهو فريق بصرف النظر عن مزاياه الخاصة يجعلنا نتساءل عن الموقف الذي تبناه خلال الحملة الانتخابية وتتساءل الصحيفة الشهيرة: هل اطاح اوباما تماما بوعوده حتى قبل ان يتولى المنصب فعليا؟
والشاهد ان اختيارات اوباما لوزيرة الخارجية هيلاري والابقاء على وزير الدفاع روبرت جيتس قد لاقت قلقا عند اطراف تتشارع النزاع مع واشنطن اليوم بما لا يعد برئاسة امنة سلمية... كيف ذلك؟
اول الامر نعود الى تصريحات رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الدوما الروسي quot; كونستانتين كوساتشيف quot; والذي اكد على ان ملامح ادارة اوباما الجديدة لا توحي بتحسن في العلاقات الروسية الامريكية وان هذه التعيينات تدل على الاستمرارية وليس على اصلاح مفهوم السياسة الخارجية في البيت الابيض.
واعتبر المسؤول الروسي ان quot; هيلاري وجيتسquot; من انصار هيمنة الولايات المتحدة على العالم ومن المدافعين عن المصالح الامريكية باي ثمن وانهما لن يكونا شريكين سهلين بالنسبة الى الجانب الروسي وان الحوار الثنائي لن يكون اقل تعقيدا مما كان عليه في عهد ادارة جورج بوش.
اما ايران فقد رات في تصريحات اوباما امرا غير مشجع ويؤكد على ان موقف واشنطن تجاه طهران لم يتغير سيما وان احد شروط اوباما لاقامة علاقات مع ايران هو وقف تخصيب اليورانيوم الامر الذي يدل في حد ذاته على عدم حدوث تغير في نظرة واشنطن تجاه ايران التي ترفض فكرة التخلي عن التخصيب.
والشاهد ان الاحباط من فريق اوباما الجديد لم يقتصر على الروس او الايرانيين فحسب بل تسرب الى مؤيدو اوباما انفسهم والعهدة هنا على الراوي quot;صحيفة التايمز البريطانيةquot; وعندها ان اولئك كانوا ياملون في ان يكون فريقه اكثر بعدا عن ادارة بوش بل ان اولئك الساعين الى رفض كامل لسياسات بوش كانوا اكثر غيظا وغضبا بسبب تلك الاختيارات وليس ادل على ذلك من وجود هيلاري والتي كانت في حملتها صقر من صقور المتشددين واكثر صقرية من اوباما ما جعل التحليلات تذهب الى انها خنجر المحافظين الجدد في خاصرة ادارة اوباما من جديد...
وربما يلزمنا قبل التوقف مع اشكالية تعيين هيلاري كلينتون ان نتساءل هل انتهى زمن المحافظون الجدد بغياب راعيهم جورج بوش عن الساحة السياسية الامريكية؟
يمكن القول بدون ادنى تردد ان جذور فكر المحافظين الجدد عميقة في ثنايا المجتمع الامريكي وتتماس مع التيارات الدينية المسيحية الاصولية وعلى هذا الاساس فان فكرة اختفائها القسري من على ساحة الاحداث هي فكرة مغلوطة سيما وان اتباعها منتشرين في الكثير من المراكز والمؤسسات الفكرية التي تلعب دورا بالغ الاهمية في عملية صنع القرار الامريكي كما ان عددا لا باس به منهم لايزال يشغل مناصب مهمة في الصفوف الثانية في معظم الادارات المنتشرة في واشنطن.
والمتتبع لتصريحات quot; وليام كريستول quot; احد اهم زعماء تيار المحافظين الجدد يدرك ان الرجل يرفض الاعتراف بانهم قد اساؤا الى امريكا عبر قيادتها في طريق الحروب وانهم غير نادمين على دورهم في دفع الرئيس بوش للتدخل العسكري في افغانستان وغزو العراق وما زالوا يلحون من اجل حرب ضد ايران فالحروب عندهم يجب ان تبقى خيارا جاهزا باعتبارها اهم ادوات تنفيذ السياسة الخارجية الامريكية.
ويؤكد كريستول على ان تيار اليمين الامريكي الظاهر والخفي على حد سواء ماض في طريقه حتى النصر وهو ما يدعمه نظيرة quot; روبرت كاجان quot; والذي يصر على ان الولايات المتحدة الامريكية جاهزة لحرب باردة جديدة على مستوى العالم ومستعدة لمواجهة دولية لعلها الاخطر بالمقارنة بالمواجهات السابقة التي خاضتها خلال القرن العشرين.
هل هذه التحليلات تقودنا فعلا لا قولا الى التشكك في اختيار هيلاري على نحو خاص لمنصب وزارة الخارجية سيما وان تصريحاتها النارية السابقة لايمكن ان تتسق وسعي اوباما لتقديم الدبلوماسية على العسكرية؟
البعض ذهب الى القول انه فعل ذلك اتقاءا لشرها وتجنبا للمزيد من الصراعات واثارة الغبار على ادارته حال ابقاءها خارجها، هذا ما ذكرته صحيفة الواشنطن بوست الامريكية مؤكدة على ان اوباما قد عمل بالمبدا القائل quot; اجعل اعدائك اكثر قربا من اصدقائك quot;.
وفي هذا السياق ياتي الحديث عن العلاقة بين هيلاري والمشروعات الظاهرة والخفية للمحافظين الجدد، ذلك ان اولئك كانوا يفضلون جون ماكين كجواد رابح الا ان فوز اوباما قد قلب كافة الحسابات والترتيبات ولهذا فان المحافظين الجدد الذين استطاعوا بالفعل اختراق صفوف الديمقراطيين قد وجدوا في هيلاري البديل الملائم ولهذا فقد دعمت مراكز دراسات جماعة المحافظين الجدد حملة ترشيح كلينتون وكانت من قبل قد عملت على افشال ترشيح اوباما كما دعمت جماعات المعسكر الصناعي العسكري والكيانات النفطية ترشيح هيلاري.
وبدا ان المخطط الجديد للمحافظين الجدد بعد ضياع الرئاسة يذهب في طريق القبض على المفاصل الهيكلية التنفيذية الاساسية الامريكية الجديدة وعلى وجه الخصوص البيت الابيض من خلال تعيين quot; راحم عمانوئيل quot; مديرا له،ووزارة الخارجية من خلال هيلاري كلينتون، ثم وزارة الدفاع بابقاء روبرت جيتس صاحب المشروعات التجديدية للعسكرية الامريكية، وسوزان رايس مندوبة الامم المتحدة المعروفة بعدائها لحكومة السودان ومخلب القط للمحافظين الجدد لجهة القارة الافريقية،ثم مجلس الامن القومي من خلال الجنرال جونز.والشاهد ان كل جزئية من تلك التعيينات وتقاطعها مع اهداف المحافظين الجدد في حاجة الى ملف بمفرده وهو ما يضيق المسطح المتاح للكتابة عنه.
ما الذي يتبقى في هذه الرؤية؟ يتبقى ولاشك امر غاية في الازعاج للقاصي والداني يتمثل في ملامح العسكرة القادمة للرئاسة الجديدة وهي عسكرة نووية من جهة وتقليدية من جهة اخرى وان بصورة غير نظامية... هل من مزيد من الايضاح؟
مع حلول الاسبوع الاول من شهر ديسمبر كانون اول المنصرم كانت صحيفة الواشنطن بوست تلفت الانتباه الى احدث التوجيهات العسكرية الامريكية والتي جاءت لتعد كجزء من خطة اصلاح شاملة للدور العسكري الامريكي حول العالم.
تقول الواشنطن بوست quot; ان التوجيه الجديد الذي وقعه نائب وزير الدفاع quot; جوردن اينجلاند quot; يطلب الى البنتاجون تعزيز قدراته بشكل شامل لخوض الحروب غير التقليدية وتوسيع نطاق عمل القوات العسكرية الامريكية الى مناطق محظورة ومحاربة الدول المعادية وذلك بالتعاون مع القوى الامنية النظامية او القوى الرديفة وحركات المقاومة الاهلية لدعم الانظمة الهشة ومن ابرز ما نصت عليه هذه السياسة الحد من تكليف الجيوش الامريكية بالقتال المباشر من خلال تطوير قدرات الجيوش الاجنبية والقوات الامنية وخلق وجود امريكي مستديم ومتواصل وكلي ضد الخصوم وخنقهم مع الوقت.
والحديث يطول وباستفاضة عن هذا التوجيه والذي لا يحتمل سوى معنى واحد وهو اشتعال العالم من جديد بحسب الخطط السابقة للمحافظين الجدد.
على ان الامر يتجاوز كذلك الحروب غير النظامية الى التطلعات النووية القادمة عبر تجديد وتطوير ترسانة امريكا النووية وهذا ما اشار اليه في اكتوبر تشرين اول الماضي وزير الدفاع المستبقى جيتس من اجل ردع كل من تسول له نفسه الاقتراب من خطي المياه الامريكيين.
من يحكم امريكا اذن في الرئاسة القادمة؟ باراك اوباما ام عسكر البنتاجون والمجمع الصناعي العسكري و رصفاءهم من المحافظين الجدد؟


كاتب مصري
[email protected]