مجموعة من حوادث التاريخ التي شهدتها بغداد على أمد عمرها الذي يمتد منذ عام (145 هـ 762 م) على يد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، يتم نشر وتداول خلاصة لها وأعداد ضحاياها خلال الفترة القصيرة الماضية. ويلاقي مثل هذا التداول رواجا في ظل التعاطف مع العراق جراء الإحتلال والإرهاب الذي يتعرض له البلد، وما خلفه ويخلفه من ضحايا.
إن الحوادث المذكورة والأرقام التي احتوتها رغم عدم توثيقها هنا لكنها لا شك مستندة إلى مراجع ومصادر تاريخية معنية يتم الرجوع لها. وقد اعتاد الكثير من القراء والسامعين المرور عليها كراما، فاغرين أفواههم على الأرقام ساخطين لاعنين الجناة.

اقرأ الرواية للحدث الأول:

quot;بدأ هولاكو (يكتب باللغات الغربية Hulagu) سلسة الذبح والقتل عام 1258 ميلادية حين حاصر المدينة وضرب أسوارها بالمنجنيقات ثم ذبح جميع الذكور فيها واستباح المدينة التي سقط فيها مليون وثمانمائة قتيل لمدة أربعين يوما ولم يخرج هولاكو من بغداد إلا بعد أن - ثقل الهواء فيها بما حمل من كريه رائحة الجيف المنتفخة وأشلاء القتلى المطروحة في شوارع المدينة- كما ذكرت كتب التاريخ quot;. انتهى ذكر الحادثة الأولى. ولنتوقف عندها ونناقش:
ليس لدينا شك في همجية قادة ومحاربي تلك الحقب التاريخية إلى الدرجة الوحشية وأساليب الإبادة (Genocide)، ولا ندعي أن قادة وجند اليوم أكثر تحضرا ورأفة بصورة عامة، لكن طبيعة المجتمع الدولي وما بات يفرضه من رقابة بواسطة المنظمات الدولية والمواثيق التي وقعت عليها الحكومات ودور وسائل الإعلام، إضافة إلى زيادة الوعي الإنساني بصورة عامة وإن تباين من مجتمع إلى آخر ومن شخص إلى آخر. لكن لنتمعن بالأرقام، مليون وثمانمائة قتيل وإبادة لجميع الذكور !!!

ترى هل شملت الإبادة الأطفال الذكور أيضا بمن فيهم الرضع؟؟؟؟
من قام بإحصاء الجثث والأشلاء؟؟؟ وكم استغرق من الوقت من أجل إتمام إحصائها؟؟؟ وأين تم دفنهم؟؟ ومن قام بعملية الدفن؟؟؟؟ هل هم الأعداء أم من تبقى من أهل بغداد؟؟؟ يعني النساء باعتبارهن البقية الباقية من سكانها. وهل لدى أولائك النسوة القدرة على دفن ضحاياهن؟؟؟ وما هي أدوات الحفر وأين توجد المقابر؟؟ ألا يمكن العثور على بعض دلائلها؟؟
عدد مهول من القتلى، هل وضعوا في مقابر جماعية؟؟؟؟؟
للأسف الشديد لم يخبرنا الراوي أو المؤرخ شيئا عن ذلك.

وفي الحادثة الأخرى نقرأ:
quot;عاد تيمورلنك إلى بغداد فحاصرها أربعين يوما وبعد قصف شبه يومي بالمنجنيقات والنار دخلت قوات تيمورلنك المدينة، وهذه المرة أمر تيمورلنك بإبادة سكان المدينة عن بكرة أبيها فأقيمت في بغداد عدة أبراج من رؤوس القتلى بعد هدم وتدمير منازل المدينة وجوامعها
واضطر تيمورلنك إلى مغادرة بغداد بسبب رائحة الجيف وفساد الهواء من تفسخ جثث مئات الآلاف من القتلى quot;.

لاحظ تشابه الوصف تقريبا والرقم الثابت (أربعين يوما) !!!

لنتابع الواقعة الأخرى:
quot; بعد عام واحد من احتلال تيمورلنك لبغداد ضرب السلطان أحمد حصارا حول المدينة ودخلها عنوة وارتكبت مجازر في شوارع بغداد راح ضحيتها هذه المرة جنود تيمورلنكquot;.

وتعليقنا هنا هو، إذا كان تيمور لنغ (Timur Leng) قد أباد سكان بغداد عن بكرة أبيها وهدم منازلها كما تذكر الرواية السابقة، فمن تبقى ليحاصره السلطان احمد بعد عام واحد فقط؟؟؟ هل هذا يعني أن سكان بغداد وقتها كانوا من جنود تيمور لنغ فقط؟؟؟؟
هل هم الأجداد الحقيقيين لمعظم أو لعدد من سكان بغداد الآن بعد أن أبيد سكانها الأصليون؟؟؟

اقرأ الحادثة التالية:
quot;بعد أشهر قليلة أعلن (بيربوداق) الإنفصال عن أبيه السطان (جهان) شاه حاكم تبريز، فغضب الأب وهدد بالإنتقام من إبنه فتوجه بجيش جرار إلى بغداد وحاصرها لمدة سنة كاملة أكل خلالها الناس بعضهم بعضا من الجوع لتسقط بغداد للمرة السابعة في تاريخها وقام السلطان بقطع رؤوس
جميع الذكور في المدينة وأعدم إبنه quot;بيربوداق بعد تعذيبه وعين على المدينة الوالي (محمد
الطواشي)quot;.
مرة أخرى إبادة للذكور؟؟؟!!!

الواقعة الأخرى:
quot; السقوط التاسع لبغداد تم على يد إسماعيل ألصفوي الذي ذبح جميع سكان بغداد وهدم قبور الأئمة وذبح علماء المسلمين ولم يترك بغداد إلا بعد أن عين خادمه خليفة عليها وأطلق عليه لقب quot; خليفة الخلفاء quot; للسخرية من المسلمينquot;.
دقق معي رجاء، quot;ذبح جميع سكان بغداد.... وعين خادمه خليفة عليهاquot;؟؟؟؟!!!
إن كان قد أباد جميع سكانها، فعلى من عين خادمه خليفة؟؟؟؟ على الحجر؟؟ على البيوت الفارغة؟؟؟

إن مناقشة متأنية من شأنها أن تفند هذه الأرقام المزعومة، وتعيد قراءة التاريخ على الأقل من أجل احترام عقولنا.
كم كان عدد سكان بغداد وقت الحادثة الأولى (غزو هولاغو 1258م)؟؟؟
وهل كانت هناك إحصاءات للسكان ودوائر وأجهزة وموظفين مدربين معنيين بها بالدقة التي نشهدها اليوم؟؟
على الأرجح أنها مجرد تقديرات للسكان في وقتها وهي تعتمد على أساليب بدائية وحدس أشخاص معنيين لإغراض عسكرية وجبائية في غالب الأحيان. لأنه من غير المعقول أن يتوفر موظفون يجيدون القراءة والكتابة والحساب البسيط يحصون السكان، مع أن إحصاءاتهم لا تتضمن البيانات الكثيرة المتفرعة التي نعلمها في إحصاءات اليوم.
كم يحتاج هؤلاء المجندون لأغراض الإحصاء من الوقت ليتموا عملهم؟ وهل كانت هناك أوامرا لوقف الأعمال والسفر في يوم أو أيام التعداد كما هو الحال اليوم من أجل ضبط عدد السكان؟؟؟؟ وهل كانت لدى السكان بطاقات شخصية لتثبت هوياتهم؟؟؟؟؟؟
إذا صدقنا عدد الضحايا (مليون وثمانمائة) فهذا يعني بالضرورة وجود عدد مقارب لهم من الإناث وإن كان أقل، ما يعني أن عدد سكان بغداد وقتها كان حوالي مليونين.
ولنفترض جدلا أن أرقام السكان كانت صحيحة في تلك الفترة، فهل تستطيعون تصور المساحة التي شغلوها لسكنهم في بغداد؟؟؟؟؟ علما أن السكن كان أفقيا ولا يوجد سكن عمودي كما هو الحال اليوم. ما يعني أن مساحة بغداد وقتها كانت تقارب مساحتها الحالية.

إن المطلع على مساحة بغداد (المدينة)، لا يحتاج إلى عناء للبحث عن حدودها في الفترات السابقة، حيث أن بغداد المدينة المدورة التي بنيت على جانبي نهر دجلة، وتوسعاتها اللاحقة، حدودها واضحة من خلال آثارها البارزة وبواباتها أو بوبها التي لازالت بعض معالمها ومواقعها شاخصة، وهي في قلب بغداد الحالية تماما ولا تبعد عن بعضها إلا كيلومترات قليلة. وقد أحاطت المدينة البساتين الغناء. أما ما حصل من تضخم أو تمدد خارج المدينة التقليدية، فكان عبارة عن قرى قليلة متناثرة على مواقع مرتفعة تقي من أخطار الفيضانات المعتادة. فهناك مقابر قريش (الكاظمية) في أقصى شمالها والأعظمية على مقربة منها في الجهة الشرقية من النهر، والصليخ والعطيفية لاحقا (موقع جامع براثا التاريخي) بين بغداد والكاظمية... الخ من المواقع. وهذا يعني ما يفصل بين هذه القرى من جهة وبينها وبين المدينة من جهة أخرى مساحات غير مأهولة، حيث البساتين كما ذكرنا. كما أن الدليل على كونها لم تكن مأهولة هو عدم وجود مواقع أثرية في مواقع تلك الأراضي الزراعية. أضف إلى ذلك أن تلك المواقع أمثال الكاظمية والاعظمية لم تكن مصنفة أجزاءا من بغداد، والى بداية القرن العشرين، حيث تم تسيير خط تراموي بين بغداد والكاظمية، حين كانت تصنف خارجها.
ومن الأمور التي لا ينبغي تجاهلها هو أن من عوامل تكاثر السكان واستقرار زياداتهم هي الأمور الصحية المتعلقة بوجود لقاحات تقي من الأمراض ووجود علاجات ضدها، كذلك قلة الحروب التي تنقص من أعدادهم. أضف إلى ذلك توفر الغذاء باستمرار ما يعني عدم حدوث مجاعات يمكن أن يموت بسببها السكان. وإذا اتفقنا على توفر عدد من أسباب ذلك في بغداد في عصرها الذهبي كما يقال، فلا يمكن أن نصدق عدم حصول أوبئة وأمراض تقليدية تقضي على حيوات أعداد كبيرة منهم، مثل الطاعون والكوليرا وغيرها.

إذن باختصار الأرقام مبالغ فيها إلى درجات كبيرة، وهي نتاج عقلية المراحل السابقة، بالإضافة إلى الأساليب الكيدية للمؤرخين والرواة للحط من قدر الأعداء، وتصويرهم بالوحشية المتناهية، مثلما يحصل تمجيد للأبطال من أبناء جلدتهم ويُبالغ في أفعالهم والخسائر التي يوقعوها بالأعداء. كذلك تداول الرواية الشفهية يجعل منها عرضة للتضخيم عادة بمقتضى الأسباب التي ذكرناها، حيث يغيب التوثيق وتغيب المسؤولية. خاصة أنه لم تكن هناك تخصصات ولا منهجية علمية مدروسة وواضحة لكتابة التاريخ. وعليه يجب فلترة مثل هذه الروايات بمعايير وموازين علمية لنصل إلى ما يمكن أن نصدقه ونعلمه لأجيالنا اللاحقة.

مختص بعلم الاجتماع، لندن: hashimi[email protected]