النقد السوسيولوجي للأعمال الدرامية:


ابتداء لابد من التذكير بأن للسوسيولوجيا (علم الاجتماع) دور هام في التقويم من خلال النقد الاجتماعي الذي يقدمه إزاء مختلف الأمراض والعلل الاجتماعية وكذلك الظواهر التي تترك أثرا على المجتمع بشكل أو آخر ولو على الأمد البعيد.
ومن الظواهر المؤثرة ما يقدم من أعمال درامية سواء كانت مسرحية أو تلفزيونية أو سينمائية، وما تتركه من تأثير على الفرد والمجتمع، يأتي ذلك نتيجة تكرار عرضها وتداول عباراتها وعبرها، وما تطرحه من توجهات تؤثر إلى حد كبير في تكوين صور نمطية وأحكام مسبقة وبالتالي مواقفا تجاه قضايا معينة وفئات اجتماعية محددة.
ونشير بالخصوص هنا إلى بعض الأعمال المسرحية quot;الكوميديةquot; أو التي تصنف في عدادها. تلك الأعمال التي تشهد عادة خروجا على النص إما أن يكون مدروسا أو غير مدروس، حيث يسوده الارتجال والإسفاف والانجرار وراء إضحاك المتفرجين، ما يؤثر سلبا في حبكة ورسالة العمل المسرحي الذي يفترض أن يكون معدا وفقا لذلك الهدف الذي يرفع من درجة وعي المتفرج ويرسخ لديه اقل شيء النزعة الإنسانية وقيم التسامح والفضيلة وغيرها مما هو ايجابي.
وقد شهد مسرحنا العربي خاصة العديد مما يعد نقاطا سوداء في مسيرته من خلال بعض الأعمال التي شهدت انتهاكا صارخا لتلك القيم التي اشرنا إليها، ولا نقول انتهاكا للقوانين، لان بلداننا كما يبدو لم تشرع حتى الآن نصوصا قانونية تحمل البعد الإنساني، وتنص على حقوق العديد من الفئات المهمشة فيها، مثل ذوي البشرة السوداء، وذوي الاحتياجات الخاصة (المعاقين)، والنساء والعاملين الأجانب، وأبناء الريف والأقليات اوالطوائف..إلخ.

لنأت على مثال قريب جدا ولا نريد هنا أن نذكر الأسماء الصريحة سواء للأعمال الفنية أو للممثلين حتى لا يفسر على أنه نيل منهم ولا دعاية لتلك الاعمال. المثال هو مسرحية كويتية بطلها الممثل (ط. ع) ، عرضت بعد ظهر يوم الثلاثاء 22.09.2009 ثالث أيام عيد الفطر. ولنتناول مشهدا واحدا ولمدة حوالي 10 دقائق فقط منها وما حملته من إهانة فضيعة لذوي البشرة السوداء الذين يعدون مواطنين أصلاء في معظم بلداننا العربية عامة والخليج خاصة. وربما يشكلون أغلبية في العديد منها. في المشهد يظهر ذلك الممثل الكوميدي بطل المسرحية وهو يسخر من شاب (اسود البشرة)، يقف صامتا على مقربة منه، وبعبارات ومواقف مهينة جدا منها:
يطلب منه أن يشارك بأداء كلمات أغنية تبدأ بكلمة quot;برمquot;، فيختصر عليه ويقول له quot; أنت قول فقط ndash; برم- على بال ما تطبق براطمك (شفاهك) تكون الأغنية خلصتquot;؟؟؟؟ إشارة هنا إلى الشفاه الغليظة لدى ذلك الشخص، وهي سخرية معتادة على ما يبدو من أشكال هؤلاء الناس.
ويعلق ممثل آخر يؤدي دورا هامشيا على نفس الشخص (الأسود) فيقول متعجبا بعد التحديق به أنه quot;أول مرة يشوف أرنب اسودquot;؟؟؟
ويعطس الشخص (الأسود) خلف الممثل البطل، فيبدأ بنفض ثيابه وتوبيخه، ويقول له quot;أشفيك أنت الحين دمرتنا كاربونquot; يعني ربط لون بشرته الأسود بالفحم والكاربون.
وبعد برهة يخاطبه quot;اسمع يا سخلة (عنزة)quot;.
وفي تتالي المواقف المشابهة المسيئة يقفز ذلك الممثل الكومبارس نفسه (الأسود) بحركة على أغنية، فينهره الممثل (ط. ع.) ويقول له quot;أنت عاد عبيد (تصغير كلمة عبد) ما مصدقين...quot; يعني تحبذون الرقص.
وفي ذات المشهد يناديه quot;يا ضياءquot; على أساس أنه اسم ذلك الممثل في الدور، فيضحك الجمهور فيرد عليهم quot; ليش تستغربون؟؟ واحد اسمه ضياء، بعد لا اسم ولا لون؟؟؟؟quot; ويختمه بقوله quot; أنت تخرب الفيزياء والكيمياء والمعادلات كلها، عمرك سمعت ظل يسبق صاحبه؟؟ شلون تسبق صاحبك (صاحبه ابيض البشرة)؟؟؟ إمشي خلفهquot;..
هذا نموذج لمسرحيات عديدة اعتادت انتهاك إنسانية هذه الفئة وامتهان كرامتهم. ولا قانون يحفظ حقوق ولا نقد يهذب ويوجه، ولا جمهور يعي المسؤولية.
لا نريد الخوض في المزيد من تلك السلبيات التي تخلفها مثل هذه الأعمال الدرامية بغض النظر عن قيمتها الفنية أو ما اعتادت أن تطرحه من بعض الايجابيات في مشهد قصير تختم بها العمل الذي يكون قد ضاع في بحر هذا التهريج والسخرية والحط من قدر الآخر.
إن من حق الفئات المظلومة المهانة والمستهدفة عن قصد أو بدونه أن تقيم دعاوى قضائية ضد القائمين على تلك الأعمال المسرحية، تعيد فيه اعتبارها، أو على الأقل تحد من الإساءة لهم في قادم الأعمال. كذلك نستغرب من قنوات معتبرة مثل quot;سما دبيquot; ومثيلاتها أن تعرض مثل هذه المسرحيات دون أن تخضعها إلى رقابة متحضرة غير تلك الرقابة التقليدية التي يعرفها الجميع.
إن هذا المشهد البائس المختصر الذي يجعل من إنسان سوي شريك لك في الإنسانية والدين والوطن أضحوكة، لهو فعل مستنكر الآن في ظل جميع الأعراف المتحضرة. ولا حاجة للتذكير بموقف ديننا الحنيف من الآخر وأسس ومعايير التفاضل بين الناس بصورة عامة. ولكن للأسف يبدو أننا لا زلنا نجتر إرثا من استعباد هذه الفئة مهما كانت منزلاتهم والروابط التي تجمعهم بنا. وهو ما يفسر سكوت جمهور المسرح الحاضر بل تشجيعه للممثل على فعلته تلك، في حين لو حصل مثل هذا الموقف افتراضا في بلد متحضر لواجه الممثل الرمي بكل ما موجود في صالة المسرح من قبل جمهوره لأقيمت ضده الدعاوي القضائية من شتى الجهات.
إن إمارة دبي التي تتبعها مجموعة قنوات دبي تحديدا والإمارات العربية المتحدة عامة التي قطعت شوطا كبيرا في مجالات التحضر quot;الماديةquot; يبدو أن قول عالم الاجتماع quot;وليم اوغبرن William Ogburnquot; ينطبق عليها فيما يتعلق بالفجوة الثقافية quot;cultural lagquot; التي قصد بها quot;التقدم الذي يحصل في المجالات المادية من الحياة مثل التكنولوجيا، لا يصاحبه تقدم مماثل في المجالات غير المادية من الحياةquot;، منها مثلا القوانين والتشريعات واحترام حقوق الإنسان وحرية الرأي والعدالة الاجتماعية والمساواة بين فئات المجتمع وما إلى ذلك. لذا يبقى تطور تلك المجتمعات ناقصا أو سيرها أعرجا.

مختص بعلم الاجتماع- لندن:
[email protected]