كنا قد تعرضنا في مقالين سابقين إلى ظاهرتين سلبيتين بارزتين في الدراما العربية، الأولى تناولت quot;صورة ذوي البشرة السوداء في المسرح العربيquot; والثانية quot;الريفي مضحوكا عليهquot;. وفي هذه المقالة نتناول فئة أخرى من quot;ضعافquot; المجتمع الذين أصبحوا مادة للتندر في عدد غير محدود من الأعمال الدرامية العربية، وهؤلاء هم المعاقون أو ذوي الاحتياجات الخاصة، ويمكن أن يصنف ضمنهم quot;الأقزامquot; أيضا.
لقد تمثلت الإساءة إلى هذه الفئة من المجتمع بصور مختلفة، منها، إشراك بعضهم في العمل الفني، خاصة قصار القامة والأقزام، والتندر عليهم وجعلهم quot;أضحوكةquot; للجمهور. منها على سبيل المثال، بعض أعمال الممثل الكويتي quot;عبدالحسين عبدالرضاquot;. ومن المشاهد التي يتذكرها الجمهور في مسلسل quot;درب الزلقquot;، سخريته من الممثل القزم الذي لعب دور المدير، وكيف قام عبدالرضا بالتلاعب بالشخص من خلال حمله ولفه بملابسه، وهي سخرية فاضحة من حجمه.
وفي أحد المشاهد من أعمال الفنان عادل إمام يقوم بتقليد مشية شخص أعرج وأعور ولغثة بكلامه. كذلك الممثل المصري سمير غانم. في أحد أعماله وخلال لقائه للوهلة الأولى في باب بيته بشخص القزم الذي يطرق الباب، quot;يفتح سمير غانم الباب أكثر من مرة ولم يرى القزم. يصيح مين؟؟؟ مين؟؟ ويعود أدراجه... فيكرر الطرق ويكرر المشهد سمير غانم بذات السخرية، مدعيا أنه لم ير القزم حيث كان ينظر فوق مستوى قامتهquot;. وفي ذات المشهد وبعد أن يراه، يكون رد فعل سمير غانم أن ينادي جيرانه في الشقة الأعلى quot;ياجماعة؟؟؟؟ في حاجة وقعت لكم هنا؟؟؟.. الخquot;.
وفي عدد من الأعمال الفنية العراقية هناك مثلا المشهد المسرحي الذي يسخر فيه الممثل جاسم شرف من زميله سامي محمود الذي أدى دور شخص أعمى يعزف ويغني في مسرحية quot;بيت وخمس بيبانquot; وكذلك زج بعض الأقزام وقصار القامة في أعمال فنية عديدة تكرس من وضعهم كمادة للتندر في الحياة اليومية، وهي متاعب تضاف إلى متاعبهم الحياتية.
أما الصور الأخرى، فمنها أن يتم تقليد شخصية معاق سواء كان أعرجا، أو أعمى أو شخصا يتلعثم أو غيرها. ويتم عرض مثل هذه الشخصيات على المسرح والتلفزيون والسينما من أجل السخرية منها لا من أجل أن يعدلوا توجهات المجتمع نحوهم وأن يكسبوا تعاطفه ودعمه لهذه الفئة المهمشة.
في جانب آخر لهضم حقوق هذه الفئة هي تغييب مبدعيها وعمالقتها لسبب أو آخر، مثال ما عرضه فيلم quot;المسألة الكبرىquot; العراقي الذي أنتج في ثمانينات القرن الماضي، لشخصية شاعر ثورة العشرين (1920) العراقية الدكتور محمد مهدي البصير (كفيف البصر)، وهو شخصية غنية عن التعريف للأوساط العراقية عامة والأدبية والتاريخية العربية عامة. الفيلم تناول ثورة العشرين وأعطي دور شاعرها لممثل كبير هو يوسف العاني، ولكن دوره كان غريبا، حيث لم يتضمن سوى بضع كلمات كانت عبارة عن تحية لبعض المشاركين في أحد المشاهد.!!!!
تخيل شاعر الثورة وصوتها يمنح هكذا دور في فيلم يتناول الثورة quot;كمسألة كبرىquot;؟؟؟؟؟.
وبعيدا عما قيل من قبل البعض حول الفيلم ودوافعه بصورة عامة، ودور الشاعر، إلا أنه في جانب آخر هو هضم كبير لحقوق المعاقين وحقيقة الأدوار التي أدوها ويمكن أن يؤدوها.
إن دور وسائل الإعلام كبير في هذا الجانب من خلال تهذيب توجهات المجتمع نحوهم، وكسب تعاطفه باتجاههم وإنصافهم. ومن بين الأساليب الناجعة هو طرح نماذجهم الناجحة وعدم السخرية منهم وجعلهم مادة للتندر كما يحصل في بعض الأعمال الدرامية.
إن الجهل الكبير قد يدفع بعض الناس إلى النظر باحتقار إلى بعض المعاقين خاصة ممن ولدوا بعاهات على أن الله أراد لهم ذلك وهذه نظرة ظالمة جدا. وقد أشار عالم الاجتماع الكبير الدكتور علي الوردي إلى ذلك حيث سماه quot;الظلم الاجتماعيquot;، ويضرب الوردي أمثلة لذلك منها- إذا شفت الأعمى كبه، أنت مو أشفق عليه من ربهquot;!!، أو quot;الله يعرف السلاية ويسود رأسهاquot;. والسلاية هي (الشوكة المدببة الحادة في سعف النخيل).
هناك تراث من احتقار هذه الفئة وظلمها للأسف، والنماذج كثيرة، منها مثلا ما قرره هتلر من منع تزويجهم، بحجة الحد من أعداد المعاقين وإبادة ذوي العاهات الجسمية والعقلية في المجتمع. كذلك التمييز الذي يمارس ضدهم في التقديم للوظائف والمقاعد الدراسية وغيرها من مجالات الحياة.
ولكن الأخطر من ذلك أن يصل أمر وجودهم ومدى أحقية استمرارهم في الحياة قضية جدل، وهل يجوز قتل الأطفال المعاقين مثلاً؟؟؟ كما دعا إلى ذلك البروفيسور (بيتر سينجر) وهو أستاذ العلوم الأخلاقية بجامعة (برينستون) في أستراليا حيث دعا إلى قتل الأطفال المعاقين لهذا أثارت آراؤه ردود فعل متباينة، فالبعض رأي أن من حق أي أستاذ أن لا يُمنع من الجهر بآرائه أيا كانت درجة اختلافها مع الآخرين. إلا أن البعض الآخر أثار التساؤل حول أسباب اختيار الجامعة وإعطائها مقعداً لأستاذ من دعاة القتل الرحيم وقتل المعاقين في وقت من المفترض أن تكون فيه الجامعة منارة للقيم الإنسانية الرحيمة؟!!.
إن الإعاقة هي حالة العجز لعضو واحد أو أكثر من أعضاء جسم الإنسان عن أداء وظيفته جزئيا أو كليا. وتختلف هذه الحالة باختلاف العضو المسبب له ودرجة العجز أيضا. فالمعاق إذن هو إنسان عاجز أو ناقص عن التماثل مع الناس الأسوياء بحساب أداء وظيفة العضو العاجز (المعاق). ما يعني أن ليس كل إنسان معاق هو ناقص أو عاجز عن أداء دوره أو المماثلة مع الآخرين. وبنفس الوقت فإن ليس كل إنسان سوي عضويا هو مكتمل ومتفوق على كل أنواع المعاقين، بدليل تفوق الكثير من المعاقين في معظم ميادين الحياة وتحقيقهم إنجازات كبيرة عجز عن تحقيقها الكثير من الأسوياء صحيا وبدنيا. وهناك أمثلة كثيرة في تاريخ البشرية لا يسع المجال لذكرها.
بالإضافة إلى الجانب الإنساني في مسألة التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، فإن هناك حقيقة أخرى وهي كثرة أعدادهم ما يعني درجة تأثيرهم في المجتمع. ويقدر عدد المعاقين في العالم بحوالي 500 مليون شخص منهم أكثر من عشرين مليون شخص في العالم العربي.
إن الشخص المعاق هو إنسان سوي عاطفيا ووجدانيا حاله حال الأسوياء الآخرين ما لم تكن إعاقته عقلية. ولهذا فهو يحتاج فقط اعترافا ورعاية معقولة من ذويه ومجتمعه والى إتاحة فرصة بسيطة لإثبات وجوده، فضلا عن مساواته في الفرص طالما توفرت لديه المؤهلات. وقد أقرت الدول الغربية خاصة قوانينا تجرم التمييز ضد المعاقين في كل مجالات الحياة لا سيما العمل طالما أن الإعاقة لا تؤثر في أداء الوظيفة.
الخلاصة لا نقول أن ما يعرض في الدراما العربية هو سبب للإساءة إلى ذوي الاحتياجات الخاصة، إنما هو بالمحصلة نتيجة أو معطى لواقع اجتماعي لازال متخلفا في هذه الناحية مثل غيرها من مناحي الحياة. لكن على الأعمال الدرامية أن تكون بمستوى المسؤولية وأن تؤدي الدور الايجابي في حياة الناس بقدر درجة تأثيرها الكبيرة عليهم. وهنا يتوجب تعديل اتجاهات المجتمع نحو هذه الفئة ودعمها وفقا للقيم الإنسانية والدينية والعلمية وليس للقيم الاجتماعية السلبية السائدة، وإن قدمت وفقا لذلك، فعليها تقديم النقد بذات الوقت والتدارك من أجل عقلنة تلك التوجهات والتوقعات.
مختص بعلم الاجتماع- لندن:
[email protected]