تمر هذه الأيام دون ضجيج، الذكرى السادسة لرحيل الكاتب والأديب المغربي الكبير محمد شكري، صاحب quot;الخبز الحافيquot; ذائع الصيت، وكتب أخرى كثيرة ظلمت، توزعت بين الرواية والسير الذاتية، وعرت جوانب خفية في المكان الذي كان طنجة العاجة بالحياة، والزمان الذي كان النصف الثاني من القرن العشرين، زمن ما بين الحربين الثانية والباردة، والفاصل بين الحدثين الاستعمار والاستقلال، والدال على الأثرين الجوع وبعض الشبع.
و قد أهداني القدر خلال الأسابيع الأخيرة، فرصة إعادة تمثل رحلة محمد شكري في المكان بالمقلوب، فلقد رحل الأديب طفلا أميا أواخر الثلاثينيات صحبة عائلته المتربة من quot;بني شيكرquot; (من هنا اشتق
الرجل اسم شهرته) المنطقة الجبلية المتاخمة لمدينة الناظور وغير البعيدة عن مليلية المحتلة، إلى طنجة المحمية الدولية آنذاك، في سفرة ربما دامت إحدى عشرة يوما أو يزيد على الأقدام.
أما رحلتي فقد كانت عكس التيار، من طنجة إلى جماعة quot;بني شيكرquot;، قطعتها في إحدى عشرة ساعة، عبر طريق جبلي وعر حد الخيال، لم تزد فيه سرعة السيارة عن ستين كيلومترا في الساعة، ولم يستقم فيه المسار مائتي متر متواصلة، ففي جبال الريف الشاهقة تبدو الحياة إلى اليوم عصية على الغرباء، طاردة للأبناء نحو الداخل، أو إلى الناحية الأخرى.
على حافة الغرب سار محمد شكري صغيرا، حافي القدمين يبحث عن quot;خبز حافquot;، أي بلا إدام، فقط لسد الرمق، كما سار طيلة حياته الأدبية الحافلة والعاصفة على حافة الغرب، تتراءى له أنوار اسبانيا من بيته على سطح إحدى عمارات طنجة الدولية، دون أن يفكر لحظة في الرحيل إليها أو إلى سواها، فقد كافح شكري ليكون quot;كاتبا طنجاوياquot; كما وصف نفسه ذات مرة، مخلصا لهذه الذات أولا، ومتعلقا ثانيا بحياة المهمشين والمعدمين والمطرودين الذين اعتبرهم باستمرار عائلته الأثيرة، وفي سجله عشرات من مواقف العطف عليهم والإحسان لهم، فضلا عن الكتابة بإسهاب وإبداع عنهم.
تعلم شكري القراءة والكتابة كبيرا، على مشارف العشرين، وقرر أن يصبح كاتبا عندما أعجبته أناقة أحدهم، وقعت عليه عيناه في مقهى quot;سنترالquot; في قلب المدينة العتيقة، فسأل عنه وأخبر بأنه يمتهن الكتابة، مثلما حدثني الأستاذ رشيد تفرسيتي أحد عشاق طنجة. وقبل أن يحقق إرادته في أن يكون كاتبا، وأي كاتب، امتهن شكري كل مهن القاع، حمالا في السوق ونادلا في المقاهي والحانات ومساعدا في أعمال وضيعة غذت خياله وصقلت عودته وقوت جهاز مناعته إزاء نكبات الدهر وصروفها.
لم يتزوج محمد شكري، لكنه عشق كثيرا من النساء وهام بهن، بل إنه ظل عاشقا إلى آخر رمق في حياته. وقد قيل عن هذه الحياة الخاصة الكثير، لكن أغلب ما قيل بدا حسب ما شهد به المقربون والمتخصصون في أدب وسيرة الرجل، محض خيال أو افتراء، تماما كما هو الافتراء الكبير الذي اعترض أشهر كتبه quot;الخبز الحافيquot;، الذي سعى متدينون محافظون إلى منع نشره وتوزيعه سنوات طويلة، بحجة أنه دعوة للسفور والانحلال وإساءة بالغة لصورة طنجة، فيما كانت الرواية كشفا لشكيزفرينيا مزمنة ما زال العرب هواة للاعتلال بها، وإشادة بطنجة لم تنل مثلها منذ رحلة ابن بطوطة التي ضاعت أسفارها في حادثة بحرية مفاجئة.
عندما وقفت مع الفنان والصديق رشيد الوطاسي الذي صاحب الراحل خلال سنواته الأخيرة، والتقط له العديد من الصور النادرة، أسفل البناية التي سكن أعلاها سنوات طويلة محمد شكري وأقام على مدخل شقته فيها سقيفة مثيرة، تساءلت كم من غني فاحش الغنى يسكن فيلا أو قصرا في طنجة، لم يقدم شيئا لهذه المدينة الفاتنة، بينما حمل شكرى اسمها محلقا إلى كل أنحاء العالم، من شقته المتداعية هذه، على السطوح دون منة منه أو أذى.
لقد صاحب شكري العديد من الأدباء والكتاب الغربيين الذين عشقوا طنجة وأقاموا فيها حياة أو جزءا منها، كبول بولز وتينسي ويليامز وجان جينيه، وقيل عن هذه الصحبة الكثير، ورأيي أن في الصلة أبعاد معروفة وأخرى ما تزال مستحقة للبحث، لكن الأمر في نهاية المطاف لن يخرج عن المألوف في الصلات الإنسانية، مزيج من وفاء وغدر، وإيثار وأنانية، وغيرة واعتراف بالجميل، لكن الثابت أيضا أن شكري لم يكن الطرف الضعيف فيها، وأن اعتداد الرجل بنفسه وقدراته وحتى هويته الوطنية لم يكن قليلا، وأن زعم البعض بأن الرجل كان مجرد quot;عميل أدبي وفكري للغربquot;، لم يكن سوى اعتقاد خيال مريض وحسد أعمى.
لم يكن محمد شكري حسب من شهد على عصره، محبا للحديث في السياسة، وكان يؤثر بالمقابل الحديث عن الأدب، لكنه في المناسبات القليلة التي يختار أن يكون فيها سياسيا، لا يتردد في التأكيد على انتمائه للعالم العربي والإسلامي، واعتراضه على الكثير من السياسات الغربية، وكان بشكل عام معارضا للحروب ذات النكهة الامبريالية، وفي لحظات البوح كان يقول عن نفسه بأنه مجرد quot;مسلم عاصquot;.
و دون تكلف كان محمد شكري أيضا منسجما مع ذاته في المسألة اللغوية، فهو ما فتئ يؤكد على أن لغته الأم أدبيا هي العربية، فقد كان يكتب بها ثم يترجم إلى اللغات الأجنبية، وكان يفضل الحوار والحديث بها في الندوات واللقاءات العامة، أما لغته الأم بيولوجيا فهي الأمازيغية، وقد كان شكري شديد الاحتفاء بأهله الأمازيغ حين يلتقيهم، ولم يكن يتردد أيضا في الدفاع عن القضية الأمازيغية باعتبارها قضية ثقافية بالدرجة الأولى، ولا مناص من حلها عاجلا أو آجلا.
كانت ميزة محمد شكري الفريدة، قدرته الفائقة على التعري، في ظل ثقافة تهوى ستر العورات وإنكار السوءات. وكان شكري في ممارسته لوظيفة التعري أمام الذات والآخرين، يراها ممارسة للتطهر وتكفيرا عن الذنب وتأكيدا على طبيعة بني آدم الخطاء، أما الذين أنكروا عليه حقه في الاستمتاع بطقوسه الخاصة، فإن كثيرا منهم ربما كان يود لو امتلك ربع جرأة الرجل أو نصف شجاعته.
كان شكري ينظر إلى أنوار الغرب المتناهية في أفق طنجة المتعدد، نظر المحب إلى أنوار مماثلة لها على ضفته القريبة حيث يعيش، وكان سيره على حافة الغرب سير العارف للفرق بين التحرر والاغتراب..والسائرون على حافة الغرب في بلاد العرب كثر، أسيء فهمهم ووما يزالون، لكنهم مصرون على قول كلمتهم والمضي..قل كلمتك وامض، هكذا تحدث شكري..رحمه الله وغفر لكل من أساء فهمه أو أنكر عليه حقه في الخطأ.