هل كانت موسكو تنتظر دلائل ملموسة على وجود النواحي العسكرية في البرنامج النووي الإيراني لتتخذ موقفاً اشد صرامة من السياسات النووية الإيرانية؟ الأرجح ان هذا التطور هو إعلامي جملة وتفصيلاً. أي انه معد ومعلن للاستهلاك الإعلامي المباشر. مجرد حجج تناسب وزراء الخارجية في الدول الكبرى وتجعل من كلمات خطبهم ومؤتمراتهم الصحافية أكثر حيوية وإثارة. الروس كانوا يعرفون والصينيون ايضاً ان الأغراض العسكرية لم تغب عن البرنامج النووي الإيراني منذ البداية. ولو قبلنا بفكرة انهم ما كانوا يعرفون، فهذا ايضاً لا وزن له في السياسات الخارجية. إذ يفترض بصناع السياسات الخارجية ان يتحسبوا لمثل هذه الاحتمالات، خصوصاً في ما يخص السياسة الإيرانية، وملفها النووي الذي يشغل العالم منذ سنوات طويلة.
ليست المعرفة المتجددة للروس ولا اليقين الصادق عند وزير الخارجية الفرنسية بأن اغراض برنامج إيران النووي عسكرية هما ما جعل العالم كله يقف موقفاً موحداً من إيران. بل الأرجح ان اغراضاً أخرى اكثر خطورة في السياسة الخارجية الإيرانية دفعت العالم إلى التنبه مجدداً والتحذير ومحاولة الاستدراك. وفي هذا المجال قد تكون الأجوبة الإيرانية على اسئلة المجتمع الدولي هي ما جعل الدول الكبرى تقرر التعامل مع إيران مجتمعة وشبه موحدة. ذلك ان ايران اعلنت في أكثر من مناسبة، وهي تجيب على اسئلة واستفسارات دولية، انها تريد التحكم بمعظم مفاصل العالم من دون شريك. وبدت في الآونة الأخيرة كما لو انها تعتبر نفسها الدولة الكبرى الوحيدة في العالم والتي لا يحد من نفوذها رادع من اي نوع. بل أن الرئيس احمدي نجاد لم يذهب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة منكراً المحرقة اليهودية فحسب، بل ايضاً مدعياً ان زمن الاستكبار الأمبريالي قد ولى، وقد بزغ فجر زمن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي لا قد لا يجوز وصف سياساتها الخارجية بالاستكبار الإمبريالي، لكنها سياسة متشاوفة من دون شك وتقدر نفسها أكثر من قدرها بكثير.
إيران االمتشاوفة والمقتدرة تطرح على العالم كله ان يوافق على تدخلاتها السياسية والأمنية في كل مكان، ليس في غزة ولبنان فحسب، بل ايضاً في اليمن ودول الخليج العربي، وصولاً إلى اميركا اللاتينية من دون إغفال المرور بإفريقيا. لكنها في الوقت نفسه تطالب اميركا بالكف عن التدخل في كل مكان وبإدراك ضآلة حجمها ومحدودية قدراتها واستحالة انتصارها في الصراعات الدائرة.
إذاً المطلب الإيراني واضح في نهاية المطاف: لا يحق لأميركا ان تمد نفوذها خارج حدودها، وطبعاً لايحق لروسيا ايضاً ان تمد نفوذها، وإذا ضيقنا الدائرة قليلاً، يمكن الإضافة: لا يحق للدول الأقليمة الكبرى من المملكة العربية السعودية إلى مصر، فتركيا واسرائيل ان تمارس اي نفوذ على محيطها الأقرب، فيما يحق لإيران ذلك بكل تأكيد.
في زمن جورج بوش الأميركي كانت الولايات المتحدة الأميركية تتحدث باللهجة الإيرانية ذاتها. عليكم ان تخضعوا إلى مطالبنا واملاءتنا وان تقبلوا من دون مقاومة حقنا في إدارة العالم من دون شريك. وكان الرد الإيراني على تلك السياسة من طينة السياسة الأميركية نفسها. هذا ما حدا بدول العالم الكبرى إلى ترك أميركا وحيدة في مواجهة طموحاتها، بل وفي كثير من الأحيان والمواقع، كما هي حال روسيا والصين، محاولة تخريب هذا الطموح الاميركي عبر دعم الطرف الذي يقاومها. لكن إيران التي بدت ناجحة كدولة مقاومة للطموح الأميركي ndash; البوشي، سرعان ما أخذت تسلك كما لو أنها حقاً دولة كبرى لها مصالحها التي يجب ان تراعى في طول العالم وعرضه.
مع إدارة اوباما التي تطمح إلى تعاون عالمي في المجالات كافة، لم يكن ممكناً استئناف السياسة الإيرانية السابقة، فما يصح مع بوش لا يصح مع اوباما، وإذا كان صلف أحمدي نجاد رداً مناسباً لاستخفاف جورج بوش الأب، فإن هذا الصلف نفسه قد يكون مقتل ايران في مواجهة اوباما. ذلك ان اميركا هي حقاً دولة كبرى، لأن كبرها وعظمتها لا يقفان عند حد ترسانتها النووية الهائلة، بل يتعديانها إلى مجالات الاقتصاد والثقافة والإجتماع كافة. والارجح ان خصومها لن ينجحوا في منافستها على الموقع الذي تحتله بتجنيد الانتحاريين فقط. اميركا دولة كبرى، ليس لأنها تملك برنامجاً لغزو الفضاء، بل ايضاً لأنها تساهم مساهمة فاعلة ولا يمكن الاستغناء عنها في التقدم والتطور العالميين، من التعليم إلى الطب إلى الصناعة والابتكار.
لو صدق الرئيس الإيراني بأن زمن الاستكبار قد ولى، وان فجر الثورة الإسلامية قد بزغ على جهات العالم الأربع، فكيف سيسافر الرئيس الإيراني، وفي اي نوع من انواع الطائرات، ليطمئن على رعاياه ومواليه في اميركا اللاتينية من دون خدمات شركة بوينغ، او من دون رادرات المراقبة ماركة موتورولا الاميركية؟