دخل لبنان في خضم أزمة جديدة. الاطراف اللبنانيون يصرون، كل من جهته، أن الازمة الحالية هي نتيجة وضع ضبابي يسود المنطقة ومواقف المجتمع الدولي حيالها. المعوقات الأساسية في هذه الأزمة خارجية. هذا صحيح، لكن المعوقات الداخلية لا تقل شأناً عن المعوقات الخارجية. الأطراف الخارجية تريد ابقاء لبنان صندوق بريد ترسل عبره رسائلها. لكن اللبنانيين لا يعترضون، بل هم يحبون هذه الوظيفة التي يوكلها الخارج إليهم. بل ان اللبنانيين يفضلون بقاء التقاطعات الخارجية على حالها من التنافر لئلا يفرض التوافق الخارجي عليهم نوعاً من التعايش السياسي لم يعد له من مقومات تذكر. رقة حاشية التعايش السياسي في لبنان امر يتحمل مسؤوليته اللبنانيون. هؤلاء الذين كانوا يخوضون صراعات مكشوفة وعنيفة أمام كل مفصل من المفاصل الأساسية في التحولات السياسية والتاريخية التي تشهدها المنطقة، ثم يعمدون سريعاً، كل مرة، إلى رفع شعار عفا الله عما مضى، ولنفتح صفحة جديدة. صفحة يكون عنوانها جهداً لبنانياً استثنائياً في ردم هوة الخلافات، وتجنب الخوض في الأسباب العميقة الداخلية التي أدت إلى تقاتل اللبنانيين في ما بينهم تلبية لرغبات خارجية. ويحاولون ما وسعهم الإيحاء ان البلد استعاد عافيته، وان اللبنانيين كل متضامن يستطيعون ويحسنون العيش في سلام وازدهار.
إنما وفي ما يبدو، لم يعد هذا الشعار اللبناني حياً في المضمون والشكل، وقابلاً للتنفيذ او للحشد من خلفه. لقد استنفد اللبنانيون في حروبهم المتتالية فيما بينهم، الساخنة منها والباردة، مقومات هذا الشعار كافة. عفا الله عما مضى ولنفتح صفحة جديدة، لكن الماضي تكرر اكثر من مرة، فكيف في وسع المرء ان يعفو عن خطأ تكرر عشرات المرات؟ الأرجح ان الشعار لم يعد مناسباً لإعادة استنهاض العيش السياسي المشترك في لبنان، وان اللبنانيين في حاجة ماسة إلى تنظيم ما يمكن اعتباره استحالة حربهم راهناً، والخروج منه نحو احتمال امكان تعايشهم.
لطالما كان لبنان اختبار المنطقة، ولطالما شكل كماً من خطوط التماس بين القضايا الحارة والساخنة في المنطقة والعالم حتى. ولطالما استطاع العيش في بحبوحة وازدهار وحيوية حين تضع التوترات الخارجية اوزارها لفترة من الزمن. لكن الانقسامات العميقة والشروخ المتكررة التي تعرض لها لبنان، وساهم ابناؤه في زيادة تعميقها وترسيخها، صنعت جداراً من الكراهية المتبادلة وانعدام الثقة بين مكونات المجتمع اللبناني، وهذه تمنع وستمنع في المقبل من الأيام تحقيق قدر من الاستقرار السياسي والاجتماعي يتيح لهذا البلد ان يبقى فيه رمق من حياة.
أزمة الكراهية هذه التي تعصف باللبنانيين، ستمنع مستقبلاً امكان استثمار الخلافات بين اللبنانيين خارجياً، وهذا قد يكون فيه فائدة ما تعود بالنفع على اللبنانيين جميعاً. لكن ذلك يجب ان لا يجعلنا نستهين بالأثر العميق الذي قد يتركه بحر الكراهية العميق بين اللبنانيين. ذلك ان اللبنانيين الذين انقسموا في ما مضى على ايقاع انقسام دولي وعالمي كان له مثيله في العالم اجمع، ينقسمون اليوم على إيقاع من الانقسامات يصعب إيجاد أمثلة له في اي مكان. ويتبعون في سياساتهم ويوالون في تحالفاتهم دولاً خارجية هي نفسها تعاني من أزمات عميقة ولا يمكن الاعتداد بدورها او الاستناد إلى حسن تدبيرها لشؤونها الداخلية والخارجية. إذ كيف يعقل ان يتبع طرف اساسي من اطراف الأزمة اللبنانية ويوالي نظاماً يعاني هو نفسه من أزمات تضرب في عمق بنيته مثلاً؟ وكيف يعقل ان تتبع دولة صغيرة كلبنان، دولة أكبر منها مساحة وعدد سكان، لكن ناتجها القومي اقل من ناتج الدولة الصغيرة المحاطة بالأزمات من كل جانب؟ الأرجح ان فرقاً من اللبنانيين تتبع سياسة هذه الدولة او تلك وتأتمر بأوامرها، ليس لأن هذه الدولة او تلك تملك ما يبرر هيمنتها على لبنان او على قسم منه، بل لأن اللبنانيين يريدون البقاء متنافرين ومختلفين، ويسعون جهدهم لإيجاد من يدعم رغبتهم في الانقسام والتنافر والاختلاف، حتى لو كان الداعم لا يملك من مقومات الدعم إلا بضعة شعارات عفا عليها الزمن منذ ما قبل افتتاح اللبنانيين اولى حروبهم المدمرة.
لهذه الأسباب يمكن للمرء ان يتخيل ان ازمة تشكيل الحكومة اليوم، التي عادت لتتحول ازمة تكليف تسبق زمناً ومضموناً ازمة التشكيل، سترتد مرة أخرى إلى اختبار ازمات أخرى عند كل مفصل، وسيبقى لبنان ينتج أزماته الداخلية على حساب الدولة وسلطتها وتوازن السلطات الدستورية والميثاقية فيه إلى حد لن يبقى معه للدولة حيز تستطيع المناورة فيه، مهما كان ضيقاً ولا يبقى من الدستور مادة إلا ويتم انتهاكها، ولا عرفاً إلا ويتم الانقلاب عليه.
مع ذلك يحلو للساسة في لبنان رفع شعار حكومة الشراكة والوحدة الوطنية. تلك الشراكة التي دلت ان مجرد اجتماع زعيمين في مجلس واحد امر ينبغي لتحقيقه توسط دول وزعماء، وتلك الوحدة التي تبيح لقسم من اللبنانيين ان يتهم قسماً آخر بالعمالة والخيانة وتنفيذ المخططات المشبوهة.