يزعم بعض اللبنانيين من المعنيين بالشأن السياسي اللبناني ان اسباب عجز الرئيس المكلف سعد الدين الحريري عن تأليف الحكومة رغم انقضاء أكثر من عشرة اسابيع على تكليفه، إنما يعود لأسباب خارجية. في هذا المجال تتقاذف الاكثرية والأقلية النيابيتين الإتهامات. الأقلية تتهم مصر والولايات المتحدة الاميركية بتعطيل التشكيل، والأقلية تتهم سوريا وإيران. ومن نافل القول ان ليس ثمة جيش مصري او أميركي او سوري على الأرض اللبنانية يقوم بمنع المرشحين إلى المناصب الوزارية من تسلم مهامهم. ومن نافل القول ايضاً ان الدول المعنية بالاتهامات ترد عليها بصيغ مختلفة. فالولايات المتحدة الاميركية تبدي نوعاً من الإعراض عن الخوض في الشأن اللبناني، حيث يكتفي مسؤولوها بتمني تشكيل الحكومة في أقرب فرصة، من دون ابداء إي رغبة في الدخول على خط الازمة اللبنانية. اما وزير الخارجية الفرنسي فيلعن من بيروت ان اسباب التعطيل لبنانية ndash; داخلية. فيما لا تصدر عن القيادة المصرية اي ردة فعل حيال الأمر. سوريا من جهتها تعلن بلسان أحد مواليها الخلص في لبنان، ان القيادة في دمشق لا علاقة لها من قريب او بعيد بتعقيدات تشكيل الحكومة.
في لبنان لن يقتنع أحد بصحة هذه التصريحات ودلالات هذه الإشارات. فاللبنانيون جعلوا منذ زمن بعيد يعشقون نظرية المؤامرة. المؤامرة في كل مكان. الذين يتوجسون من سوريا خيفة يقولون: سوريا تعطل ونحن لا نصدق خطابها الرسمي، والذين يعادون أميركا يقولون: ومتى كانت أميركا لا تتآمر؟ انها تتآمر على لبنان منذ ان ولد لبنان.
والحق، ان الناظر في طبائع الازمة اللبنانية واستطالتها المفرطة زمناً وجهداً وتدخلات، لا بد وأن يدرك ان ثمة معضلة لبنانية داخلية، لم يشهد لها هذا البلد الصغير مثيلاً من قبل. لبنان اليوم يعيش في لحظة رفض طوائفه ومكوناته التعايش في ما بينها. مفهوم التعايش اليوم بالنسبة لمكونات البلد الأساسية وقواه الفاعلة يمكن صرفه وفق المعادلة التالية: نؤمن بالتعايش ونريد الشراكة بشرط ان يخضع الشريك لشروطنا كافة. دون ذلك ليس المجال متاحاً لتعايش بين مختلفين او شراكة بين قوى سياسية مختلفة التوجهات، يجمعها الانتماء إلى كيان قانوني وحقوقي وسياسي، مما يحتم عليها جميعاً الاجتهاد في محاولة ايجاد تسويات معينة تتيح للبلد ان يسير سيره الطبيعي.
معنى هذا كله ان لبنان الذي شكل على الدوام منذ ولادته وطناً من خطوط التماس المتشابكة والمتشعبة بين الشرق والغرب، وبين العرب والإسلام، وبين المسيحية والإسلام، وبين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية، وبين الشيعة والسنة، واحيانأً بين الأفكار الاشتراكية والافكار الليبرالية، هو بلد اختبارات. بل يمكن القول انه مختبر العالم بمعنى ما. لهذا يمكن للمرء ان يتفهم الأسباب التي تدعو دولة كبرى كالولايات المتحدة او فرنسا إلى الاهتمام الشديد بما يجري في لبنان. وفي الوقائع ان البلد كان ينعم بفترات ازدهار وهدوء وتعايش في اللحظات التي تكون فيها المشاريع السياسية الكبرى اقليمياً ودولياً، والتي تتقاطع مصالحها في لبنان، تعيش لحظة مراوحة ما. وهذا بالضبط ما هو حاصل اليوم. فالمشاريع السياسية والتغييرية تعيش في فترة سباتها، في انتظار شيء ما. لكن لبنان لم يستفد مع ذلك من فترة السبات الدولي هذه. ذلك ان الانقسامات اللبنانية تجذرت وهي تبدو اليوم اعمق من ان يخفف من حدتها هدوء دولي او انصراف اقليمي عن الاهتمام بالشأن اللبناني. ذلك ان هذه الانقسامات تجاوزت مرحلة التحاجج والوقوف عند حدود الأفكار والمبادئ، وباتت انقسامات من غير حجج. انهم مسيحيون وكفى، لذا هم مختلفون ولا يمكن الاتفاق معهم، هؤلاء سنة ولا يمكن الوثوق بهم، وهؤلاء شيعة ولا يمكن التحالف معهم. مما يعني ان التنوع اللبناني الذي لطالما أغنى الفرد اللبناني وثقف طريقته في العيش واسلوبه في التعايش، اصبح اليوم خللاً تكوينياًً لا يمكن اصلاح حاله. والحال لم تعد تسمح للبنانيين بالعيش معاً تحت سقف دستور واحد وقانون واحد.
الدساتير في كل بلاد العالم هي من نتاج التسويات بين القوى المكونة لأي بلد. وحين يصير الخلاف بين القوى المكونة للبنان عميقاً إلى حد انعدام الرغبة بالتسويات، لا يعود ثمة من يستطيع ان يطبق الدستور، وليس ثمة من يستطيع ايضاً ان يعدله.