يسجل المتابع خلال هذه الفترة من فترات ما بعد ما سمي بـ " الربيع العربي أو الديمقراطي" بالمغرب دينامية ملحوظة، واجتهاد واضح في مباشرة الاصلاح والتغيير، رغم أن الشارع " الشبابي" خاصة الذين خرجوا للاحتجاج إبان اندلاع موجات الاحتجاح على الأوضاع في الوطن العربي مطالبين بالتغيير، كانوا يطمحون إلى إصلاحات عميقة وجوهرية، وإلى انتقال ديمقراطي حقيقي وكامل.
لكن بالنظر إلى ما وقع في بعض البلدان العربية من احتراب داخلي وفوضى عارمة أتت على العباد والبلاد، وتكالب المطامع الخارجية على المنطقة العربية وما أفرزه من وضع خطير؛ يهدد استقرار كثير من الأنظمة السياسية العربية التي تشكل العمود الفقري للجامعة العربية التي أصبحت في وضع يحسد عليه.
أمام هذه الأوضاع الاقليمية والدولية لا يسعنا إلا النظر فيما ما جرى ويجري في المغرب بايجابية وأنه أفضل ما يمكن القيام به من إصلاحات قد وقع، والأمل معقود على أجيال ونخب جديدتين لعلها تضيف إلى ما تم القيام به، وتوسع من الهامش الديمقراطي المتاح الذي ساهم إلى حد ما في السلم الأهلي.
في فترة من فترات الحكم في المغرب لم تكن كثير من الفرص المتاحة الآن لأفراد المجتمع للتعبير عن آرائهم والمشاركة في صناعة القرار السياسي، ولم يكن أدنى احترام للمواطن ولا اعتبار لصوته. اليوم لم يعد من اليسير تزوير الانتخابات، ولم نعد في "مغرب دستور 2011 " نشهد تأجيلًا للانتخابات عن موعدها، ولا انفرادًا من قبل جهة واحدة للإعداد لها، وتم وضع تسهيلات للمواطنين للتسجيل في اللاوائح الانتخابية، وأصبح الاعلان عن النتائج يتم في وقت معقول...
هل هذا يعني أننا وصلنا إلى سدرة المنتهى في عمليات الدمقرطة؟ طبعا، الجواب بالنفي، لكن لا يسعنا إلا الإقرار بأن ما حصل نوع من التحول والتطور يتجه نحو الديمقراطية.
لقد جسدت الانتخابات التشريعية للسابع من أكتوبر(تشرين الأول) 2016 (ثاني انتخابات في ظل دستور جديد 2011) لحظة مفصلية في تاريخ المغرب، واستثناء في محيطه الاقليمي، وأبانت أن المغرب ماض نحو طريق الديمقراطية بتؤدة وخطى متزنة، رغم أن طغمة من السياسين سعت بكل الوسائل والأدوات إلى إرجاع البلاد إلى مربع الصفر؛ لا يعنيها مستقبل البلد، بقدر ما تسعى إلى تأمين مصالحها الشخصية، وجعل العمل السياسي مطية لاكتساب الثروة والحصول على امتيازات غير قانونية، واستغلال النفوذ.
- اقتراع 7 من أكتوبر أبان أن لا عودة إلى الوراء، وأن زمن تزوير إرادة الشعوب ولّى إلى غير رجعة، وأبان أيضًا عن توق إلى الحرية ورفض قاطع للهيمنة، كيفما كان نوعها، وأبان كذلك هذا الحدث السياسي أن المغاربة قد عبّروا بشكل سلمي وسليم رفضهم اتجاه التسلط والفساد، وبات الجميع من ساسة وأجهزة الحكم، يدركون أن تزوير إرادة الشعب مكلف جدا، وتبعاته لها تأثير على جميع مناحي الحياة.
-اقتراع 7 اكتوبر أظهر كذلك أن المغاربة في المجمل غير عازفين عن السياسة، بل متابعون بدقة ما يحدث في المشهد السياسي، فالبعض منهم أيد اليسار (حزب فيدرالية اليسار الموحد) لما وجد الثنائية الحزبية المتصارعة غير مقنعة له، والبعض هب للتصويت للحزب الذي قاد الحكومة (حزب العدالة والتنمية / مرجعية إسلامية لما شعر بالطرف الآخر (حزب الاصالة والمعاصرة) غير مؤهل لقيادة البلاد نحو الديمقراطية بالنسبة إليه، والبعض الآخر ومن منطلق قراءة سياسية قاطع الانتخابات بالمرة، لأنه لا يرى من جدوى لها (جماعة العدل والاحسان/ الاسلامية) وحزب النهج الديمقراطي (اليسار الجذري).
ألاحظ أن منسوب السياسية داخل المجتمع المغربي يزداد بشكل ملفت، وأن الكثير من المواطنين أصبحوا يؤمنون بأهمية السياسة، ويريدون إرجاع الاعتبار لها، وعدم تركها للسماسرة والمسترزقين بها. وكذلك المجانين الذين يلجون السياسة ويعبثون بمستقبل بلدانهم، ولذلك أضحى المواطن المغربي على وعي تام بأن إخلاء الساحة السياسية من السياسين الأكفاء، وذوي المصداقية ينطوي على خطورة تطال العباد والبلاد.
- اقتراع 7 من أكتوبر أفرز لنا غالبية ساحقة ومستحقة لحزب العدالة والتنمية الذي كان يقود الحكومة السابقة: حيث خلال هذه المدة (5 سنوات/ من 2011 إلى 2016) عرفت قطاعات إصلاحات جوهرية عدة، بعضها استحسنه الجميع (التعليم) وجزء منها أثار جدلا واسعا ولا يزال (إصلاح منظومة التقاعد) وبعضها الآخر لا يزال يرواح مكانه (القضاء والادارة..). هذه القطاعات إلى جانب الصحة و التجهيز والإسكان باشرتها الحكومة الائتلافية بقيادة عبد الاله ابن كيران. أما في ما يتعلق بالحقل الديني والدبلوماسية والجيش والأمن فهذه القضايا موكولة للمؤسسة الملكية.
وبتعيين الملك رئيس الحكومة من هذا الحزب، تتناغم الارادة الملكية مع الإرادة الشعبية باحترام المنهجية الديمقراطية والوفاء للنص الدستوري تحديدا الفصل 47 منه القاضي بتعيين الأمين العام للحزب المتصدر للانتخابات في منصب رئيس الحكومة.
إن ما بعد السابع من أكتوبر يعد حقبة جديدة في التاريخ السياسي للمغرب، ولعل من أكبر التحديات التي ستطرحها هذه المرحلة؛ هي إشكالية النخب وتجديدها سواء تعلق الأمر بجهاز الدولة أو المؤسسات الحزبية أو المدنية، ثم التحدي الثاني الذي يتعلق بالمؤسسة الحزبية مفاده؛ الفراغ الفكري، فقد لاحظ الكثير من المتابعين للشأن الحزبي خلال الحملة الانتخابية أن كثيرًا من البرامج الانتخابية متشابهة بين الاحزاب، الخطاب السياسي للقادة غير مقنع، اللهم إذا استثنينا زعيم حزب العدالة والتنمية، لاعتبارات عديدة، لا مجال لذكرها هنا، لذلك، فإن العديد من الناخبين اضطر الى التصويت السياسي بغضّ النظر عن أداء الحزب في الحكومة، وبغضّ النظر عن البرنامج الانتخابي للأحزاب، كما حصل بشكل ملحوظ في الانتخابات الاخيرة، فبمجرد أن يلاحظ المواطن مؤشرا بسيطا قد يؤدي بالبلاد إلى طريق الأسوأ فانه يفضل الأقل سوءا ويصوّت لقطع الطريق عن هذا الإتجاه الأسوأ (على سبيل المثال لا الحصر مظاهرة الدار البيضاء التي كانت حملة انتخابية قبل أوانها، حيث احتشد فيها مواطنون يحملون شعارات لا يفهمون مغزاها، تستهدف الحزب الحاكم بشكل مباشر، فخلفت رد فعل معاكسا كان في صالح الحزب الذي يقود (الإئتلاف الحكومي).
يتبين من خلال هذه الملاحظات أن ما بعد السابع من اكتوبر وضع الجميع من ساسة وفاعلين مدنيين وحقوقيين، وأجهزة الحكم وصناع القرار... أمام حقبة جديدة وانعطافة تاريخية لا يملك المرء امامها إلا أن يكون متفائلا بمستقبل هذا البلد، والايمان بأن البناء الديمقراطي ليس معطى جاهزا ناجزا، ولكنه مسار طويل وشاق مليء بالمنعرجات.
يبقى التساؤل "هل سيحسن الساسة وصناع القرار في هذه المملكة العريقة قراءة التحولات الاجتماعية التي أفرزتها بعض السلوكات السياسية الجديدة للناخبين، وربطها بما يحدث من تحولات في العالم على كافة الصعد؟".
التعليقات