تتناسل الأحداث و الأخبار الدامية من مشرق و مغرب العالم العربي، ومعظم القصاصات الإخبارية عنوانها الرئيس سفك الدماء و العنف بشتى أشكاله، الأمر الذي يدفع الملاحظ و المراقب للأوضاع بالعالم يتساءل هل عجزت كل هذه الأقطار عن إنتاج أحداث تدعو إلى التفاؤل، فمن فلسطين المحتلة مرورا بسوريا التي تعيش تدميرا لا مثيل له في التاريخ البشري، و اليمن التي تعرف تطاحنا مسلحا لا يكاد يهدأ حتى يشتعل مجددا، ومصر و ما تعرفه من انتكاس سياسي و اجتماعي و اقتصادي و الأمر ذاته ينطبق على باقي البلدان العربية من الرباط إلى المنامة. فلما كل هذا الانتكاس و التقاتل و التطاحن؟
فالبلاد العربية مقسمة اليوم بين بلاد غابت فيها الدولة و أجهزتها المركزية و سادت الفوضى و العنف، و بلدان تعرف سيطرة نظم حكم مستبدة مع غياب شبه تام للحريات الفردية و السياسية، و ما يصاحب ذلك من انتهاك مزمن لكرامة المواطن و حقه الطبيعي في العيش الكريم.
لا نريد نقل صورة تشاؤمية للواقع العربي، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال إخفاء الشمس بالغربال، فالواقع العربي أصبح مكشوفا للجميع، ولا أحد يستطيع الجدل بعكس دلك. لكن مع ذلك فإن من شيم المسلم التفاؤل و التطلع إلى غد أفضل، مصدقا لقول الرسول الكريم محمد عليه الصلاة و السلام: {تفاءلوا بالخير تجدوه}. و لإستشراف المستقبل بعيدا عن ضبابية الواقع القائم، لابد مبدئيا دحض الاعتقاد السائد بأن البنية الثقافية العربية و الإسلامية داعمة لقيم العنف و التخلف، كما تروج لذلك مجموعة من مراكز الأبحاث الدولية وبعض وسائل الإعلام. ونفي هذا الاعتقاد يدعمه التحليل المقارن لتجارب دولية لا تنتمي للنسق الحضاري العربي أو الإسلامي:
أولا- أغلب بلدان أمريكا اللاتينية و أسيا و ايفريقيا التي استطاعت مع مطلع الربع الأخير من القرن الماضي، تحقيق انتقال سياسي واجتماعي و الخروج من رحم العنف و القلاقل و تحقيق نظم حكم على درجة كبيرة من المشروعية. فهذه الدول عانت من ويلات حروب أهلية و صراعات مسلحة، و استطاعت الطوائف المتصارعة الجلوس لمائدة الحوار و التوافق على صيغ إنهاء حالة العنف، و الانتقال لحالة السلم و الاستقرار.
ثانيا- تجربة انتقال بلد كصين له دلالته المهمة للعالم العربي، فهذا البلد الذي يتربع اليوم على عرش الاقتصاد العالمي و أصبحت قرارات حكومته تؤثر في مصير العديد من شعوب العالم. هذا البلد شهد منذ مطلع القرن الماضي حروبا و قلاقل اجتماعية في مواجهة الأجنبي الغازي لسواحل البلاد من جهة، و في مواجهة نظام حكم ضعيف و متلاشي من جهة أخرى. مرورا بحرب تحرير قادها الحزب الشيوعي الصيني منذ عشرينات القرن الماضي لتحرير البلاد من الاستعمار الياباني. و تحررت البلاد وتم إعلان قيام جمهورية الصين الشعبية بقيادة الحزب الشيوعي الصيني. و لم تنتهي حالة العنف في البلاد و ماصاحبها من قلاقل اجتماعية، لكن بالرغم من حجم التضحيات الدموية و معاناة الشعب الصيني الذي عانى من سياسات جد مكلفة اقتصاديا و اجتماعيا كالقفزة الكبرى و الثورة الثقافية.
لكن كل ذلك لم يحل دون انتقال البلد إلى مرحلة مغايرة تماما، فالبلاد كغيرها من البلدان العربية مهددة من قبل الداخل و الخارج، و تعرف وجود أقليات عرقية و قوى مناهضة للتغيير. لكن عندما تسود الحكمة و يغلب صوت العقل و المصلحة العامة يمكن الوصول إلى حلول وسط. فالحزب الشيوعي الصيني استطاع أن يطهر نفسه بعد وفاة الزعيم "ماوتسي تونغ"، و أن يقوم بعملية نقد ذاتي و البحث عن مصالحة مع الشعب، فكانت الخطوة المفصلية الالتزام بتنفيذ مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية الشاملة و التي غيرت فيما بعد وجه الصين.
صحيح، لم يكن الانتقال الصيني في بدايته ديمقراطي وفق مبادئ الديمقراطية الليبرالية الكلاسيكية، لكن تم الاتفاق على حزمة من المققرات التي صبت نحو توسيع خيارات المواطن الصيني، فقد تم ترشيد أداء الإدارة العمومية و مكافحة الفساد وتوسيع نطاق الحريات الفردية و عقلنة السياسات العمومية و تقوية مبدأ المساءلة السياسية، و الحرص على توزيع عادل لعائد التنمية بين مختلف فئات الشعب و بين مختلف الأقاليم، وتعزيز الفعالية الاقتصادية للبلاد بتحسين المناخ الاستثماري و تقوية التنافسية.
نجاح التجربة الصينية في الخروج من عنق الزجاجة كانت بمبادرة من الحزب الحاكم و لم تكن نتيجة انقلاب سياسي أو ثورة أطاحت بالنظام القائم، لكن ما حدت في الصين مع نهاية سبعينات القرن الماضي كان ثورة هادئة بكل المعايير، ثورة قادتها نخبة حاكمة مسؤولة و ذات تصور عقلاني. قرأت الواقع و حاولت استشراف المستقبل فأدركت بحدسها السياسي أنه لابديل عن الإصلاح الحقيقي، لذلك لم يكن إصلاح عنيف و عشوائي، و إنما إصلاح متدرج و متحكم فيه.
البلاد العربية اليوم بدورها أمام نفس اللحظة التاريخية وان كانت أكثر تعقيدا، عن ما عرفته الصين في سبعينات القرن الماضي، هذا التعقيد نتيجة لتأخر النخب الحاكمة العربية عن التفاعل مع معطيات الواقع المحلي و الإقليمي، وتمسكها بمواقعها وجمودها الفكري و التكتيكي و عجزها عن استشراف المستقبل، الأمر الذي جعل المنطقة العربية بركانا هائجا حممه تتسع بالتدريج نحو مناطق جديدة.
و لا ينبغي أن يفهم من سرد الكاتب لتجربة الانتقال و التحول الصيني انه معجب بالتجربة الصينية في مجملها، فالتجربة لها مثالبها و التي لا يتسع المحال لذكرها. لكن المهم في هذه التجربة هو إمكانية تحقيق الإصلاح من الداخل دون حاجة لهدم النظام القائم دفعة واحدة، و أن الإصلاح بالتدرج آمر جد فعال في تحقيق الانتقال السلمي من أنظمة شمولية منغلقة إلى أنظمة مرنة و أكثر استجابة لتطلعات شعوبها. من المؤكد، أن البدائل المتاحة أمام الوطن العربي أصبحت تتقلص بالتدريج و العدو الأول للمنطقة هو التأخير و غياب الجدية في الإصلاح. فسياسات الإصلاح التي تبنتها الأنظمة في الغالب سياسات تسويقية موجهة لعدسات الكاميرا أو للخارج، وليست بالإصلاحات الفعلية التي تستهدف تغيير وجهة الانحدار نحو الهاوية.
لكن مع ذلك، نتمنى من الأنظمة السياسية التي لازالت تتمتع بقدر من الاستقرار، أن تتجه نحو صياغة عقد اجتماعي جديد مع شعوبها، حقنا للدماء و إنقاذا لهذه البلدان من التفتت و العنف. فمحاولة السيطرة على الشعوب لم تعد تجدي في ظل الثورة المعرفية و التواصلية. فالشعوب العربية على درجة كبيرة من الوعي و يصعب قهرها بأي شكل من الأشكال، ووقف مسلسل الطغيان و الظلم السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي أصبح مطلبا جماهيريا في كل أقطار العالم العربي.
المنطقة في حاجة إلى دورة حميدة للتنمية، فكما أن ثورات الربيع العربي في 2011 انتقلت من تونس و امتدت إلى باقي الأقطار العربية، كذلك يمكن للتجارب الإصلاحية الناجحة أن تخلق عدوى بناءة تعم مجموع الإقليم.
و نقطة البدء في هذه الدورة التنموية الحميدة، التوقف عن تنفيذ أجندات و توجيهات المؤسسات الدولية لاسيما البنك الدولي و صندوق النقد، والابتعاد عن السياسات التنموية الكلاسيكية، نريد بلدانا تتصدر الأخبار كقصص نجاح تضيف الجديد للحضارة العالمية، و لما لا تسهم في إصلاح إعوجاح و انحراف المنظومة القيمية والتنموية الكونية، فهذه الأمة المتناحرة اليوم كانت بالأمس الخميرة التي نشرت قيم الإسلام و تعاليمه لباقي أقطار العالم، ومهدت لقيام عصر ذهبي تميز بسيادة السلم و الاستقرار لقرون. فبانكماش دور العرب خاصة و الآمة الإسلامية خسر العالم الكثير، لا سيما و أن العديد من الاختلالات البنيوية التي تعتري النظام الاقتصادي والاجتماعي و الأخلاقي الكوني لها علاج فعال في تعاليم الإسلام.
إن الدور الحضاري للأمة هو القضية الجامعة لشتات الأمة بشقيها العربي و الإسلامي، فلابد من صياغة سياسات فعالة و ملزمة بمشاركة كل القطاعات الحية في مجموع البلدان العربية، هدفها وقف النزيف و نقل الإقليم من حالة المفعول به إلى حالة الفاعل. هذا الأمر قد يبدو طوباويا لكن لن يكون مستحيلا إدا ما توفرت القيادات الرشيدة و النوايا الحسنة المتجردة عن كل منطق شخصي أو كسب أني. وليس من الضروري أن تقود هذا التحول دولة أو قطر، معين يمكن أن يكون جهدا مشتركا و الشعوب العربية لديها ما يكفي من الموارد البشرية و المادية التي تؤهلها لقيادة مصيرها، لكن ما ينقصها غياب المنظم الرشيد.
و المشروع الحضاري للأمة لابد له مجموعة من الدعائم أهمها :
إصلاح سياسي يجعل الحكومات خاضعة لسيادة الشعوب فالحريات السياسية و المدنية مطلب لابد منه، وخلق مصالحة بين الشعوب و النخب الحاكمة مع رد المظالم لأهلها، بغض النظر عن طبيعة الحكم ملكي أو جمهوري..
إصلاح منظومة التعليم و ربطها بالرسالة الحضارية للأمة و قيمها الإسلامية...
وإصلاح اقتصادي و اجتماعي ينبذ كل أشكال الظلم و الطغيان و توجيه الموارد العامة والخاصة نحو تحيق العدالة الاجتماعية و توسيع خيارات الأفراد.
فالتأخر في تنفيذ هذه الإصلاحات لن يقود إلا إلى مزيد من التفكك و فقد السيطرة و التوجيه، فعلى القوى الحية داخل الإقليم العربي - أفرادا وجماعات- أن تتحمل مسؤولياتها الأخلاقية و الدينية و الحضارية فالكل مسؤول عن هذه الدماء التي تسفك و الحقوق التي تنتهك.
أكاديمي و إعلامي مغربي
- آخر تحديث :
التعليقات