إعادة انتاج الاعمال الفنية لعبة مارسها الغرب منذ زمن بعيد.
وأبرز الأمثلة رواية البؤساء، التي أُعيد إنتاجها في السينما والمسرح والتلفزيون مرارًا، وكان آخر تكرار لها عام 2013، وبنجاحٍ كبير.

في العالم العربي تتحول إعادة إنتاج الأعمال إلى إشكالية، يتلهى بها النقاد والصحف. ويتصدر الرفض استقبال أي عمل يُعاد انتاجه.
لعلّ من الأسباب تقديس القديم، فالعمل الذي يقدمه فنان مبدع ومتفرّد مثل الراحل فؤاد المهندس، يصبح الإقدام على معاودة إنتاجه أشبه بمخاطرة، على الرغم ان الفنانة عفاف شعيب، بحسب رأي مشاهدين ونقاد، قدمت دور "نعمت" في مسلسل "أفواه وارانب"، على نحوٍ فاق أداء فاتن حمامة للشخصية ذاتها في الفيلم السينمائي الذي سبق المسلسل.
والأمر ذاته ينطبق على صلاح ذو الفقار، مقارنةً بمحمود ياسين في تجسيد شخصية "محمود"، على الرغم ان الفارق الزمني سنة واحدة بين العملين. الفليم عُرِضَ عام 1977، والمسلسل في السنة التالية!

الكثير من الجدل سبق إعادة انتاج مسلسل "طاش ما طاش" بعد قرابة 12 عامًا من توقفه. فضلًا عن ان طاش لم يتوقف وهو في حال ازدهار، وان شئت، فان مسلسل طاش توقف وهو مصاب بهزال درامي. وشهد خلافًا بين ناصر القصيبي وعبدالله السدحان.

وكان القصيبي وصل الى قناعة بضرورة التوقف حتى لا يتحول الهزال الى وفاة سريرية، وهو عبّر عن موقفه هذا في حوارٍ تلفزيوني على قناة "العربية" عام 2010، مصرًا على البحث عن صيغةٍ أخرى. فضلًا عن ان افتراق الثنائي وعودتماها مجددًا، نادرا ما يحقق النجاح.
وأشهر حالة فراق ثنائي لم تفلح جهود عودتهما، سعد الفرج وعبدالحسين عبدالرضا .
لكن عودة "طاش ما طاش" قلبت التوقعات والمعادلات. وسكت الكلام المتشائم والمحبط في أول يوم من رمضان.

الفكرة طُرِحَت في البداية من رئيس هيئة الترفيه السعودية، تركي آل الشيخ.

اقترح آل الشيخ الفكرة في مناسبةٍ عامة، ولم يأخذها النجمان بجدية، وتعامل الناس معها باعتبارها مجاملة لتعطير ذكرى مسلسل أصبح علامةً في تاريخ الدراما السعودية. لكن آل الشيخ يتميّز بعنادٍ إيجابي، فضلًا عن انه متذوّق للفن، ويهتم في أدق تفاصيل عمله. والنتيجة ان تركي آل الشيخ أصرّ على إعادة انتاج العمل، وربما رسم ملامح العودة.

الولادة الجديدة للمسلسل تُشبه حال البلد، مبهرة. والحلقة الأولى أصبحت جواز مرور للمسلسل في نسخته الجديدة. وهي بدأت من مشهد رحلة برية، جرى تمثيله سابقًا، في ثمانينات القرن الماضي. سيارة عليها غبار "أهل الكهف" تدخل إلى مدينة تعيش في المستقبل.
وصلت عائلة طاش الى الرياض التي تغيّرت رؤيتها للحياة والمستقبل.
والاجمل ان سيناريو الحلقة استوعب التغيير الهائل الذي حدث في المجتمع، ومرّره بطريقةٍ تشبه القبول العام للواقع المُبهج الذي صارت تعيشه السعودية اليوم.

اللافت ان نجوم المسلسل عاودوا تمثيل "الشخصيات" التي سبق لهم تقديمها بطريقةٍ اكثر امتاعًا وابداعًا ونضجًا. ليس من السهل على الفنان ان يعيد عمل قدمه قبل سنوات، وعلى هذا النحو الذي فعله نجوم طاش جميعا.

القصبي مثّل الشخصيات التي قدمها سابقًا بطريقةٍ تدل ان ناصر ممثل من طراز خاص. وهو لعب الشخصيات بإتقان، وصنع نقلةً في أدائه كممثل محترف.
ويمكن القول ان تجربة ناصر القصبي في مسلسل "طاش العودة" تستحق ان تُدرَّس في معاهد التمثيل.
عبدالله السدحان استطاع في طاش الجديد ان يفصل بين التقمص والتمثيل، وهو صار أكثر اقناعًا وابداعًا من السابق.
راشد الشمراني ويوسف الجراح والآخرين أثبتوا ان الدراما السعودية صار لها نجوم وتاريخ يُكتَب.

الأكيد ان الفن السعودي يحظى اليوم بدعمٍ رسمي أفضى إلى مساندة شعبية غير مسبوقة.
وتركي آل الشيخ ينفذ بجدية، رؤية خلاّقة ومرسومة ببصيرة حاكمة، بعيدة النظر، وشديدة الطموح.
صدق مسلسل طاش، السعودية خرجت من الكهف.