المشهد الأول جرى تصويره عام 1963
الرياض مدينة غافلة. تستيقظ مع صلاة الفجر، وتتثاءب قبل صلاة العشاء. عدد سكانها قرابة 150 ألف نسمة، اكثر قليلا، او اقل قليلا. تشكل بيوت الطين، والمنازل الشعبية ملامحها. اشد احيائها ازدحاما وضجيجا وحيوية، هو حي"الشميسي"، الذي قاوم غزو البناء الحديث لسنوات. وتنازل طواعية عن استقبال حداثة العمران لأحياء أخرى هي، الملز، وحي المطار وشمال المربع. و ظل"الشميسي"متمسكا بطرازه النجدي لسنوات طويلة.

من اجمل واشهر شوارع الرياض في ذلك المشهد"شارع الوزير"، نسبة الى الوزير عبدالله الحمدان، وهو اول مواطن سعودي يحصل على هذا اللقب والمنصب، في الدولة السعودية الثالثة.

اذا دخلت الى شارع الوزير تشعر انك وصلت الى احد العواصم العربية التي مرّ عليها الاستعمار الغربي. شارع الوزير كان انيقا وتحفة، ترى فيه ملامح من شارع إبراهيم باشا وسط القاهرة، والحمراء في بيروت، وبعض شوارع الميدان في دمشق.
يعجّ "الوزير" بـ"البوتيكات" التي تبيع أحدث الملابس الاوروبية، فضلا عن ملابس النساء الداخلية، والمكتبات التي تبيع مجلات فيها صور "غير شكل"، ومحال حلويات، وتحف، كأنه صورة ملونة في فيلم اسود وابيض!

المطاعم في الرياض قليلة، وهي تعد بالعشرات. معظمها يأخذ صفة مطعم وهو لا يشبه المطعم. ارتياد المطاعم لم يكن سلوكا اجتماعيا، وربما اصبح تهمة عند بعض الناس. من يذهب للمطاعم يوصف بانه"داشر"، وغالبية رواد المطاعم من"الخواجات"، وبعض العرب، و ثلة من المواطنين"الزقرت"، الذين يهتمون بأناقة مظهرهم، ويستخدمون أشياء، يهاب المجتمع استخدامها.

النساء السعوديات والعربيات لا وجود لهن في المطاعم. كأنها محرمة على معشر النساء، حتى الأوروبيات منهن محرومات من هذه الفرصة!

اشهر مطعم في شارع الوزير اسمه"أمية"، وهو سوري. وفي ذلك الزمن كان العرب من فلسطين وسوريا هم الأبرز مساهمة في المهن والتجارة.

وأمية له اصل في دمشق تأسس في ثلاثينات القرن الماضي، ومتخصص ببيع الشاورما والمشاوي، واشتهر بتقديم اللبن المخلوط بالثوم. كان"اللبن الثومي"له مذاق عجيب غريب، في ذلك الزمن الجميل. ذهاب السعوديين للمطاعم في تلك الأيام كان"فسقه"، وان شئت، بطرا. وتناول"ساندويتش"الشاورما في مطعم أمية مع لبن الثوم كان الترف بقضه وقضيضه.

الترف لم يكن حكرا على شارع الوزير، بعض الفنادق فيه ترف. كان هناك فندق الشرق، واليمامة. لكن لا احد يدري ماذا يجري داخلهما. واذا كان ارتياد المطاعم"دشرة"، فان دخول الفنادق فسق بواح. بعضنا كان يتلصص من فوق الاسوار، ويرى نساء يسبحن بملابس قصيرة، عرفنا لاحقا انها تسمى"مايوه". ولم تكن تثيرنا حينها. كانت مشاعرنا على الفطرة، وخيالنا لم يصله الكهرب!

المشهد الثاني جرى تصويره عام 2023
الرياض صارت مدينة لا تتثاءب، بل تكاد لا تنام. وهي، اليوم، من ابرز المدن الذكية في العالم، ترتيبها الحادية عشر بين مدن مجموعة العشرين. ووصل عدد سكانها الى قرابة 10 ملايين نسمة. كل شوارعها صارت اجمل من، طيب الذكر، "شارع الوزير". ومن ولد وتربى فيها، لا يستطيع السير في شوارعها من دون استخدام خرائط "قوقل(غوغل)".

عدد المطاعم فيها يتجاوز الـ45 الفا. لكن لم يعد للسوريين والفلسطينيين مكان الريادة فيها. حتى المطاعم اللبنانية التي سيطرت على هذه الصناعة في ثمانينات القرن الماضي، والى وقت قريب، فقدت الريادة، امام المطاعم الفرنسية والايطالية والأميركية، التي صارت تتصدر الساحة.

وفي الآونة الأخيرة اصبح للمطاعم والمقاهي المصرية حضور واضح. فالرياض أصبحت مدينة صاخبة، ومطاعم المصريين تحب العيش في"الصجة و اللجة"!

اليوم لا جديد في الحديث عن الرياض. لكن اللافت قصة النساء. ففي الصورة الأولى لم تكن المرأة موجودة في المطاعم، ولا حتى الشوارع. اليوم أصبحت المرأة هي الزبون والمضيف، وهي من يحرّك صناعة المطاعم في الرياض.