من السعي نحو تأسيس دولة كردية مستقلة إلى التحول لموظف تصريف أعمال. ومن تنصيب رؤوساء وزراء العراق، إلى الانسحاب من إجتماعات اللجنة المالية ببرلمان العراق. هكذا أصبح حال إقليم كردستان الذي كان قبلة أنظار كبار الساسة العراقيين وسعيهم الدائب إلى إسترضاء قادته عسى أن يحصلوا على المباركة لتنصيبهم رؤوساء لوزارات العراق. وكل هذا التحول المثير كان نتيجة حتمية للتعامل الصلف بروح التعالي والكبرياء مع القوى السياسية العراقية، رغم أن العراق دولة قائمة بذاتها، وكيان الإقليم لا يعدو سوى كيان هش متداعي ينخره الفساد الضارب في كل مرافق الحكومة ومؤسساتها.

لقد كانت حكومة الإقليم بقيادة حزب مسعود بارزاني تعيش في وهم العظمة المصطنعة تحيط نفسها بطبقة فاسدة من المتملقين ومستشاري السوء يبنون لها قصورا في الهواء ويدفعونها للتعامل بكبرياء وصلف مع قادة العراق، مما جعلها تتصرف وكأنها دولة عظمى في المنطقة بيدها وحدها اقرار سياسات الدولة العراقية. كان هذا السلوك المتعالي ناتجا عن ضعف العراق وإبتلائه بحروب داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى طوال السنوات المنصرمة، ولكن ما أن إستعادت الدولة بعضا من عافيتها حتى تفرغت تماما لإضعاف سلطة الإقليم ونتف ريشها عبر إستصدار جملة من القرارات من المحكمة الاتحادية الإلزامية، وصولا إلى فرض إلتزامات قاسية على الإقليم في قانون الموازنة الاتحادية. ولم ولن تنفع تهديدات سلطة الإقليم الأخيرة ولا إحتجاجتها الصبيانية بالانسحاب من لجان مناقشة الموازنة في ثني النواب العراقيين بفرض أقسى الإجراءات التي تنتقص من سيطرة حكومة الإقليم حتى في تمشية أعمالها الاعتيادية. فقد كبلت المحكمة الاتحادية وإجراءات الحكومة المركزية يد هذه الحكومة بشروط قاسية وملزمة لم يكن أحد يتوقعها. وهنا بعض تلك الإجراءات التي سوف تحد إلى حد كبير من سلطة حكومة الإقليم، بل وسيجردها من كافة صلاحياتها المالية والادارية.

فيما عدا قرارات المحكمة الاتحادية بعدم دستورية تصدير النفط الكردي وحرية التصرف بالموارد النفطية، جاء قانون الموازنة الاتحادية ليضع قيودا أخرى على إدارة الثروة النفطية المستخرجة من حقول كردستان مستقبلا. ففي المقام الأول ألزم القانون حكومة الإقليم بتسليم 400 ألف برميل يوميا من نفطه الى شركة سومو الاتحادية. وأوقفت تماما تصرف حكومة الإقليم بالآبار النفطية في كل من محافظتي كركوك والموصل. والشق الثاني من الإجراء هو الإشارة إلى إستخدام ما تنتجه آبار كردستان النفطية لسد الإحتياجات المحلية، بمعنى أنه لن يكون هناك في المستقبل أي مجال لتصدير النفط الكردي إلى الخارج عبر الموانيء التركية، وهذا بحد ذاته يشكل تهديدا قويا لعلاقة حزب البارزاني بالدولة التركية وغيرها من الدول التي تتعامل نفطيا مع إقليم كردستان، وبالتالي سوف يلغي هذا الإجراء الإتفاقية التي وقعتها حكومة البارزاني مع تركيا لمدة خمسين عاما والتي تتيح للجانب التركي إستغلال النفط الكردي مقابل حماية سلطة البارزاني. ناهيك عن تأثير هذه الإجراءات على علاقات الحزب بالشركات الأجنبية العاملة بكردستان والتي وظفتها السلطة الكردية لكسب دعم دولها.

والأمر الأشد قساوة الذي فرضه قانون الموزانة هو حصر التصرف بعائدات النفط بوزارة المالية الاتحادية فقط، فجميع الموارد المتأتية من تصدير النفط ستدخل في حساب بنكي خاضع لسيطرة وزارة المالية، ولوزير المالية وحده أن يمنح جزءا من صلاحياته لرئيس حكومة كردستان للتصرف بتلك الأموال وهذا أمر مستبعد إلى حد ما، مما يعني أن رئيس حكومة الإقليم سيظل تحت رحمة وزير المالية ببغداد ولايستطيع التصرف بدولار واحد من الايرادات النفطية. بل أن هذه الوزارة سوف تتولى مباشرة بالتعاون مع سلطة الإقليم بمراقبة الايرادات الجمركية والعائدات المحلية من الرسوم والضرائب التي ستؤول جميعها إلى خزينة الدولة العراقية. والشرط الأقسى الذي سوف يضعف سلطة الإقليم إلى حد كبير هو أن قانون الموازنة ألزم حكومة الإقليم بإعطاء الأولوية لرواتب الموظفين والمتقاعدين، وتحقيق المساواة التامة بين المحافظات في دفع الرواتب، وفي حال وجود شكوى أو تظلم من أية محافظة حول عدم تحقيق العدالة والمساواة، فإن الحكومة الاتحادية سوف تعزل تلك المحافظة عن سلطة الإقليم المالية وتوزع رواتب تلك المحافظة مباشرة من بغداد. وهذه ضربة قاسية لحكومة الإقليم لأن هذه الحكومة سبق وأن إستغلت الجانب المعيشي للموظفين لكسب ولائهم المطلق، ناهيك عن إستخدامها مسألة الرواتب كورقة ضغط ضد محافظة السليمانية والمناطق الأخرى الخارجة عن نفوذ الحزب الحاكم في إقليم كردستان.

أما القيد الأكثر تكلفة على حكومة الإقليم فهو فرض شرط إسترجاع نسبة 10% من الرواتب التي إستقطتها قسرا من رواتب موظفيها خلال الأعوام 2014 - 2022 لسد عجز موازنتها. وهناك شرط آخر يلزم حكومة الإقليم بتسليم قوائم بإسم موظفيها كاملة ليتم إعادة النظر فيها. خاصة وأن هذه الحكومة عينت خلال السنوات الماضية مئات الآلاف من الموظفين الوهميين (الفضائيين) بهدف كسب أصواتهم الانتخابية. وفي المجمل فإن قانون الموازنة أوجبت خضوع جميع التعاملات والتصرفات المالية من حكومة الإقليم لرقابة شديدة من قبل دائرة الرقابة الاتحادية، وهذا سيساعد بشكل كبير في مكافحة الفساد وهدر ونهب أموال الدولة من قبل سلطة الإقليم.

لقد كانت هناك فرصة كبيرة أمام حكومة الإقليم لتحسين أوضاع مواطنيها خصوصا منذ عام 2007 حين بدأت مليارات الدولارات تتدفق من بغداد على الإقليم، لكن الفساد والنهب والسلب، وصولا إلى إعلان سياسة الاقتصاد المستقل الفاشل الذي تبنته حكومة الإقليم والتصرف اللا مسئول بالثروة النفطية عبر إرتهانها بيد الشركات الأجنبية والدولة التركية، والظلم الكبير الذي ألحق بموظفي الحكومة جراء إستقطاع مبالغ كبيرة من رواتبهم لدعم السرقات والفساد، كل ذلك حول حكومة الإقليم والكيان الكردي الدستوري إلى كيان هش آيل للسقوط في أية لحظة، ولم تنفع تحذيرات ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة ولا تصريحات المسؤولين الأمريكان والأوروبيين ولا حتى مئات المقالات التي كتبها الكتاب الأحرار الحريصين على مستقبل بلدهم في دفع سلطة الإقليم إلى مراجعة حساباتها والكف عن الفساد وشراء الذمم والعمل بدل ذلك على تحسين أوضاع مواطنيها وتحقيق تنمية إقتصادية حقيقية يتناسب مع حجم التضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب الكردستاني طوال العقود الماضية. وصدق رب العزة حين قال:

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ)