يدرك الساسة القطريون أنهم سيخرجون من حرب غزة بيد خالية، فملف الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي المعقد لم يسِر كملفات الوساطة التي تولتها قطر بين الولايات المتحدة وعدد من الحركات والجماعات الإسلامية؛ مثل ملف العلاقة مع طالبان، والذي حقق نوعًا ما بعض النجاحات.
منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، أبلغت دولة قطر قيادات السلطة الفلسطينية وجهات رسمية تركية، باستحالة إدامة العلاقة مع حماس، لاعتبارات سياسية واقتصادية، وهو ما سربته في أكثر من مناسبة لوسائل الإعلام في رسالة لجهات دولية انتقدت الاحتواء القطري للحركة.
الرسالة تزامنت مع تحركات قطرية للتواصل والاتصال مع عدد من القيادات والشخصيات الفلسطينية المستقلة في محاولة استباقية لمزج حماس وحمايتها داخل إطار سياسي فلسطيني يكون مقبولًا على الساحة السياسية الدولية. ولعل أبرز هذه المحاولات محاولة التقرب - بداية الحرب - من القيادي محمد دحلان وتياره، والذي أغلق الباب بوجه الساسة القطريين، رافضًا منح حماس أيّ غطاء سياسي دون ضمانات لوحدة فلسطينية حقيقية بعملية مصالحة شاملة مع الكل الفلسطيني.
الصدمة تتلو الصدمة تلقتها التوجهات القطرية، والتي تأتي في سياق إنقاذ الدوحة قبل إنقاذ حماس من الانتقادات الدولية، التي قد تنبش في الدفاتر القطرية العتيقة الممتلئة بانتهاكات حقوق الإنسان والرشاوي إبان المونديال، ليأتي رفض الرئيس الفلسطيني محمود عباس إشراك الحركة في مشاورات حكومة التكنوقراط برئاسة الدكتور محمد مصطفى، كالقشة التي قصمت ظهر البعير. خاصة أنَّ ضغوطاً إسرائيلية وأميركية باتت تأخذ منحى التهديد الجدي بإجراءات عقابية تؤثر على ما سعت إليه قطر خلال السنوات الماضية من بناء علاقات ثقة مع دول المجتمع الدولي وفي مقدمتها الولايات المتحدة.
في محاولة لتخفيف الضغوط على قطر وإنقاذ مستقبل حماس السياسي، تدخلت تركيا عبر وزير خارجيتها بإعلان عن إمكانية تحول حماس إلى حزب سياسي مع حل جناحها العسكري في إطار الدولة الفلسطينية؛ إعلان لم يأخذ صداه على الساحة الدولية.
التخبط القطري لوقف نزيف تداعيات الحرب على سياستها الخارجية تواصل أمام صخب الضغوط، مما أدى إلى تغيير اللهجة السياسية القطرية مع قيادات حماس، التي ما كان منها إلا الهرب إلى تركيا، لتعود بعد مكوث ما يقارب الثلاثة أسابيع، نتيجة تدخل تركي كان ناصحًا لقطر بأن النفوذ الإيراني تمكن من قرار الحركة التي أصبح حصرًا بيد يحيى السنوار فقط.
رفض الرئيس الفلسطيني تقديم أيّ تنازل من خلال التمسك بشروطه بشأن المصالحة مع حماس، وضعف قياداتها في الدوحة في التأثير في المشهد الداخلي للحركة خاصة مع استمرار رهان وتعويل السنوار على دور إيران ومحورها في التأثير على واقع الحرب في غزة، عوامل حدَّت من خيارات الدوحة في إبقاء نفوذ لها في الملف الفلسطيني، مما دفع قطر لبحث مسار جديد يفضي لإيجاد بديل فلسطيني عن حركة حماس التي باتت بمستقبل غامض يشكل عبئًا على الساسة القطريين.
المسار يصب في تجميع شخصيات فلسطينية أبدعتها إحدى أدوات السياسة القطرية الناعمة، شخصية تطلق على نفسها لقب "مفكر عربي"، لها مركز دراسات وفضائية وموقع إلكتروني بذات الاسم، تغدق بالأموال القطرية يمينًا وشمالًا بحساب مفتوح، تهوى التنظير السياسي والاستعراض المسرحي، تخوض المعارك السياسية بعناوين إثارة الجدل، لاهثة وراء صناعة مجد وإرث شخصيين في منطقة الشرق الأوسط.
المسار نجح إلى الآن في تكوين نواة تجمع فلسطيني بعدد محدود من الفلسطينيين الطامحين لصعود الساحة بعد انتهاء حركة حماس، يزاحم منظمة التحرير كبديل يملأ فراغًا محتملاً داخل الساحة السياسية الفلسطينية، بعيدًا عن الأيديولوجيات الدينية. حيث عُقدت سلسلة لقاءات واجتماعات في العديد من العواصم: لندن، الدوحة، الكويت، والضفة الغربية، استعدادًا لعقد مؤتمر وطني فلسطيني برعاية وتمويل قطري.
المعلومات المؤكدة التي رشحت من بعض الشخصيات، تحدثت عن خلافات عميقة وفجوات واسعة بين ما يطرح وما يستطاع تحقيقه على الأرض.
إقرأ أيضاً: مؤامرة السابع من أكتوبر الكبرى
أيضًا بدأت تظهر الخلافات حول من سيترأس المؤتمر وما سينتج عنه من تجمع إطار قيادي، حيث هناك معارضة كبيرة حول بعض الأسماء المطروحة، وهو ما يذكرنا بمؤتمر المعارضة العراقية عام 2002، الهادف وقتذاك لتجميع المعارضة العراقية تحت عناوين سياسية موحدة، التي تشرذمت وتشتت بفعل خلافات قادتها وأدى ذلك لفشل المؤتمر. ولعل هناك مثال أقرب، فقطر ذاتها لم تستطع حتى الآن تجميع الفرقاء اللبنانيين على طاولة الحوار، رغم الامتيازات المالية التي تصرفها للعديد منهم للوصول إلى توافق يفضي لانتخاب رئيس الجمهورية.
بالعودة إلى المسار القطري... والعقبات التي تقف في طريق استكماله، خاصة فيما تتعلق بقبول الشعب الفلسطيني لقيادات مدعومة قطريًا لا تملك تاريخاً نضالياً. فطبيعة الشعب الفلسطيني عشائرية وفصائلية، فقد اعترف خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحماس السابق ذات يوم، بفشل الحركة في الاستحواذ على الشارع الفلسطيني، والحلول بدلًا عن حركة فتح المتجذرة بداخله لاعتبارات تتعلق بطبيعته وتكوينه.
إقرأ أيضاً: صراع خفي على مركز الوسيط الأول في حرب غزة
وهذا ينقلنا لنقطة حساسة في هذا المقال، فبعد ثمانية أشهر من السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، فشلت حماس في تحريك جبهة الضفة الغربية، ليس هذا فحسب بل فشلت في إخراج مظاهرة شعبية واحدة بأعداد كبيرة داخل مدينة رام الله، مقر خصمها السياسي، واعتمدت على ردة فعل شعبية عفوية إبان صفقة تبادل الأسرى الأولى لترويج تأييدها وإظهار شعبيتها.
فالسؤال هل يملك المسار القطري الجديد وما سينتج عنه من تجمع سياسي فلسطيني فرصة التأثير داخل هذا الشارع؟
وهل تمتلك قطر أدوات للضغط على بقائه متماسكًا بعيدًا عن ورقة المال التي تستخدمها حاليًا؟
تجارب سياسية عديدة أنتجها المال، وبعثرتها الطموحات السياسية الشخصية، وأجهضتها التدخلات الخارجية.
التعليقات