تمر الكويت في مرحلة سياسية قاسية بعد غيبة مجلس الأمة، ولكن المبررات والعوامل والأسباب تحتم التأمل والمراجعة للعديد من القضايا وخاصة ثقافة السياسية ودور الحكومة في نشرها وهضمها وتحليل ظروف التمرد والفراغ النيابي في دولة ذات نظام ديمقراطي دستوري!

ولكي ننهض من مراحل الجدل العقيم والهدم والتآكل إلى مرحلة إعادة البناء السياسي والمزيد من الحريات ومعالجة عثرات ومبالغات الممارسة النيابية وفهم الأخطاء وتصويبها، ولكي نحافظ على المكتسبات الديمقراطية علينا الوقوف عند العوامل المسببة والمحفزة للأزمات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.

انحرافات وانعطافات حكومية وبرلمانية حادة وغير مسبوقة شهدتها الكويت خلال مراحل حكومية وبرلمانية شتى لعل أهمها خلال الفترة 2013-2020 حين تغولت السلطة التشريعية ورئيسها على صلاحيات الحكومة أي سلطة رئيس الوزراء دون وقفة حكومية جادة!

تحتم عملية التأمل وتحليل الانحرافات والانعطافات والأخطاء والمبالغات النيابية والسياسية، عدم استثناء مجلس 2022 (المبطل)، والحلول الدستورية لمجلس 2023، ومجلس 2024 قبل مباشرة عمله، فهي نماذج سياسية تعكس ظاهرة غير ملهمة سياسياً ونيابياً في الكويت.

غابت ثقافة الديمقراطية وطغت بدلاً منها ثقافة القبيلة والطائفة والفئة والتشدد الديني والتزمت الاجتماعي بدلا من التسامح والتعايش وتفشت الغوغائية السياسية وتفريغ العمل النيابي من نصوص الدستور بسبب صفقات ومساومات ومبالغات حكومية ونيابية وانتخابية.

لم يكن للظواهر المدمرة للديمقراطية أن تستفحل داخل مجلس الأمة وخارجه لو كانت الحكومة راعية لثقافة سياسية وهاضمة للديمقراطية في مناهج التعليم والمدارس والمجتمع وأجهزة الدولة، فقد تنازلت حكومات طوعياً عن مسؤوليات من صلب اختصاصها الدستوري!

الأسباب والعوامل التي عمقت الفجوة والفراغ والإخفاق في العمل النيابي كثيرة، ولكن الطرف الحكومي وغيره من أطراف معنية ومتضررة ومستفيدة لم تلعب دوراً حكيماً وحيادياً في تفكيك الأزمات قبل بلوغها الانسداد السياسي وشيوع الهدم والتدمير للديمقراطية داخل المؤسسة التشريعية وفي المجتمع ثقافياً واجتماعياً.

ثقافة الديمقراطية قتلتها حسابات ومصالح نيابية وحكومية وفراغ ثقافي في المجتمع الذي تميز في مراحل مبكرة جداً بالاستنارة والتصدي للأصولية ولكن لم تحظ هذه القيمة الثقافية التاريخية باهتمام حكومات متعاقبة ولم تجعلها أولوية!

انشغلت مجاميع حكومية ونيابية وشعبية ليس بإطفاء الحرائق السياسية، بل في صب الزيت على نيرانها وقد كان الطرف الحكومي شاهداً على الفوضى ومشجعاً لغياب الثقافة السياسية ومتنازلاً للطرف النيابي الغوغائي الذي توهم ببطولة المعارضة السياسية!

المعارضة الكويتية في مفهومها وحقيقتها النضالية لم تعد وصف ملائم ودقيق للجماعات التي دخلت على خط الانتخابات والعمل السياسي عموماً، فثمة العديد من العوامل التي أحدثت تغييراً في طبيعة التحديات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي لم تحظ بالاستنفار الحكومي والتصدي المبكر لعواصف الغوغائية والمساومات وجنون الفجور بالخصومة.

لم تحدث الانحرافات والمبالغات والتشوهات للعمل السياسي والنيابي، خلف كواليس مغلقة، بل كانت علنية وفي جلسات مجلس الأمة واجتماعات الحكومة وعلى المنابر الإعلامية الرسمية والخاصة حيث طغت المصالح على القرارات والتشريعات والقوانين وحظت نزعات الانحراف والتدمير للديمقراطية بمباركة سكوت حكومي!

نواب الأمة، البعض أو الكل لا فرق بينهم اليوم، استحسنوا الصوت العالي والسلوك الغوغائي والتعسف في الأدوات الدستورية والمبالغة في الرقابة والتشريع ليس لقوة حججهم وانما لضعف الحكومة وتنازلها عن دورها الدستوري بصد صفقات المصالح والمحاصصة في الانتخابات والتشكيلات الوزارية ووأد الاستغلال البشع للديمقراطية.

أخطأت حكومات في عدم هضم الديمقراطية وفي المناهج والتعليم والإعلام والسياسات عموماً وقصرت في الرقابة والتصدي للسرقات والفساد وأيضاً أخطأت في قراءة المشهد العام في الماضي الحديث دون إعادة دراسة الأخطاء وتحديد مصادر الخلل والمعضلة الثقافية ومعالجتها.

اليوم، الحكومة ليس أمامها مجلس أمة ومبالغة نيابية وليست تحت ضغط حسابات وصفقات انتخابية وشعبية والحكومة وحدها مسؤولة عن التشريع والتنفيذ والإصلاح وحماية الديمقراطية، فرفاهية الحجج والمبررات والأعذار غابت مع غيبة مجلس الأمة... هكذا يفترض!

المأزق الكويتي ليس سياسياً مهما تعددت أسبابه وظروفه وعوامله، بل هو ثقافي قاد إلى التمرد والفراغ والغوغائية في العمل النيابي داخل المؤسسة التشريعية وخارجها دون استثناء للدور الحكومي الذي ساهم في تورم المأزق الثقافي واحتدام الصدام بين السلطتين.

المأزق الكويتي يستوجب إعادة تقييم هضم الحكومة للديمقراطية ثقافياً لتنهض الكويت سياسياً ودستورياً وتحافظ على مكتسبات تاريخية لصالح كل الأطراف السياسية.